لدينا أفلام تعبر الحدود وتشارك فى المهرجانات وربما تحصل أيضًا على جوائز، ستكتشف أنها تمكنت من الإمساك بمعادلة إنتاجية خارج «الأبجدية» المتعارف عليها.
وهكذا جاء حلم أقصد فيلم «البحث عن منفذ للسيد رامبو»، ولد مجرد أمل جميل إلا أنه بعيد المنال، وعلى مدى 8 سنوات كانت الناقدة والكاتبة الصحفية ومبرمجة المهرجانات رشا حسنى تلتقط الخيط، مع المخرج الذى شارك أيضًا فى كتابة السيناريو خالد منصور يبحثان عن تمويل، ليضمنا تقديم المشروع كما حلما به، ثم انضم حالمون آخرون للفكرة حتى اكتملت وأصبح الفيلم سفيرنا فى العديد من المهرجانات بداية من (فينسيا) وصولًا لـ(البحر الأحمر) الذى تعلن نتائجه مساء اليوم.
الأحداث أغلبها ليلية، حتى تلك التى لا تسمح بوجود الليل، أخذت من الليل إظلامه وقبل ذلك مذاقه، ليضفى على (الكادر) ظلالًا نفسية توحى بالمأزق الذى يعيشه البطل، الشريط شحيح الضوء فى القسط الأكبر منه، وهو ما يمنح الفيلم خصوصية لتأتى لقطة النهاية والضوء يسيطر على الموقف، دلالة على امتلاك القوة.
أول انطباع يفرضه عليك العمل الفنى قبل رؤيته هو العنوان، فى البداية شعرت بأنه طويل أكثر مما ينبغى، لماذا لم يكتف المخرج بـ(رامبو)، أو على سبيل المداعبة (السيد رامبو)، أو من الممكن الاكتفاء بالمقطع الأول (البحث عن منفذ)، ليطرق العنوان كل الأبواب، لأنه يتيح لخيالك التحليق فى كل الأجواء.
بعد نهاية العرض تأكدت أنه لا بديل للعنوان كاملًا، إنه التمهيد الحتمى لكل ما سوف نراه على الشريط، ليؤكد أن المخرج لا يقدم شيئًا مجانيًا لا كلمة أو لقطة، عشوائية، خارج السياق، وهذا هو أحد أهم مفاتيح الإخراج و(الترمومتر) الذى تقيس به قدرة المخرج.
الشريط السينمائى يواجه جمهورًا باتت معاييره أخلاقية جدًّا بالمعنى المباشر للأخلاق، وقبل ذلك سوق سينمائية تتحكم فيها شركات توزيع لا ترحب بالاختلاف وتريد فقط تكرار نفس (الصنف).
هذا الفيلم يقف على الشاطئ الآخر، بعيدًا عن كل تلك المعايير، لديه أيضًا خيط جماهيرى، قادر على أن ينقل المتفرج إلى عالمه، المخرج يخلص تمامًا للفكرة، ويختار الموقف الذى يصنع خيطًا سحريًّا مع المشاهد.
ساعات محدودة هى زمن الفيلم واقعيًّا، مما يمنح الشريط جاذبية خاصة، لأنك تصبح مثل أبطاله تدرك أن كل دقيقة لها ثمن.
من أهم أسلحة االعمل أن المخرج خالد منصور شارك مع الكاتب محمد الحسينى السيناريو المنسوج بميزان من ذهب، يمزج اللحظة بالماضى، نتعرف على حياة الطفل حسن منذ الميلاد حتى الآن، اختيار عام جديد يتيح لنا الإحساس بالمراجعة العامة، ويعيدنا إلى جذورنا، البطل يستمع إلى أشرطة كاسيت مع والده الذى اختفى فى ظروف غامضة، تخلى عن مسؤوليته، وأصبح على (حسن) مواجهة الحياة وحيدًا.
اللقطات الأولى تقدم لنا العلاقة مع الكلب البلدى ونكتشف أن الكلب لديه أيضًا مساحته فى اللعب والدلع مع البطل (عصام عمر) الذى سبق أن تابعته فى العديد من الأعمال التليفزيونية، وجه جديد قادر على امتلاك عين المتلقى، ممثل عصرى جدًّا فى اختيار أدوات التعبير، تلقائى وعفوى بقدر ما يمتلك عقلًا يقظًا قادرًا على ضبط التعبير، أرى أن هذا الفيلم سيضعه فى مكانة خاصة بين (جانات) السينما المصرية.
ليس مهمًّا الحكاية بتفاصيلها، الأهم أن المخرج يجعلك جزءًا منها، الابن وأمه أسماء إبراهيم يواجهان وحشًا، صاحب ورشة يريد طردهما من البيت، ليستغلها فى إصلاح السيارات، يمارس كل العنف الذى يصل للسادية فى فرض سطوته على تلك الأسرة المسالمة فهم لا يملكون سوى التمسك بأول خيط فى الحياة وهو البيت، لمحات متعددة للعلاقة بين الأم وابنها وثالثهما الكلب الذى أصبح أحد أفراد الأسرة، تجعلك تتعاطف مع أبطال الحكاية.
انطلاق الشخصيات فى السيناريو مكتوب بحرفية عالية، أحمد بهاء الوجه الجديد صاحب الورشة توظيف رائع من المخرج لملامحه وأدائه المتمكن رغم أنها تجربته الأولى، ركين سعد الممثلة الأردنية أداء مقنع واختيار موفق جدًّا للمخرج وهى الشخصية المحورية التالية للبطل عصام عمر، الكلب يدخل طرفًا فى الصراع، عندما يدافع عن صاحبه ويعقر فى مكان حساس صاحب الورشة.
(السيد رامبو) فى النهاية سيتم إنقاذه فى لحظة مصيرية لأن سيدة مصرية (يسرا اللوزى) ستصطحبه معها خارج الحدود، وأيضًا (عصام عادل) ينتقم بيديه من صاحب الورشة، ويحصل على عقد بأحقيته هو وأمه فى البيت.
علينا مواجهة القوة بالقوة، الرسالة لو أنك عزلتها عن التفاصيل، تبدو مباشرة وتذكرنا مثلًا بفيلم (السفيرة عزيزة) عندما استطاع الشاب المسالم شكرى سرحان زوج سعاد حسنى أن يشبع الجزار عدلى كاسب ضربًا، الذى كان يريد الاستحواذ على ميراث شقيقته.
ما قدمه هذا الفيلم ودفع به لتلك المكانة هو تلك التفاصيل التى تمنحك زاوية رؤية مختلفة تطل بها على الحكاية، وتعيد قراءة الفيلم بعيدًا عن صرامة الحكاية، ولكن ظلالها، لتكتشف أن السيد رامبو ليس هو بالضبط الكلب رامبو وأن الشاب حسن يجسد أمامنا قضية عميقة عن علاقة المواطن بالقانون، والأب الذى اختفى فى ظروف غامضة ولم يتحمل المسؤولية ليس مجرد أب، ولكنه سلطة أدبية تخلت عن دورها.
عناصر الفيلم كلها أو أغلبها تخوض التجربة لأول مرة، ربما لديهم تجارب محدودة، رأيتهم فى هذا الفيلم مخضرمين: مدير التصوير أحمد طارق بيومى والمونتير ياسر عزمى وديكور مارك وجيه.
فيلم مشرف لنا بكل عناصره، وعلينا أن نسأل كيف نهيئ المناخ السينمائى فى مصر ليستقبل كل تلك الإبداعات؟.
ويبقى عنصر رئيسى داخل وخارج الفيلم، المطرب محمد منير، للمرة الثانية بعد فيلم الافتتاح (ضى) أجد صوت منير هو الباقى من حكايات الزمن، إنه الخيط السحرى الذى يعثر عليه البطل عنما يستمع إلى شريط كاسيت بينه وبين الأب الغائب، الاثنان توحدا على صوت منير.
استطاع منير منذ قرابة نصف قرن أن يصبح هو (الحدوتة المصرية) وليس مجرد مطرب لـ(حدوتة مصرية)، عندما نتحدث عن عمق مصر ووجدانها يتوهج على الفور صوت (الكينج)!.