وأنت تقرأ هذه الكلمة أكون أنا قد انتقلت من (فيينا) إلى (نيس) ومنها إلى (كان) للتواجد مع بدء الفعاليات.
سبقنى بالحضور عدد من الزملاء، يفضلون الوصول قبل قص شريط المهرجان بأربع وعشرين ساعة، حتى يستعدوا بهدوء أكثر لهذا (الماراثون) السنوى.
يفتتح المهرجان بالفيلم الفرنسى الكوميدى (الفصل الثانى) للمخرج كوينتن دوبيو، خارج التسابق، وسوف يعرض فى نفس الوقت داخل الصالات الفرنسية.
الجمهور الفرنسى مثل الأوروبى يفضل السينما (الهوليودية) ونجومها يترقبهم ولهذا وقبل الافتتاح سيشهد العالم من خلال الفضائيات تتويج الفنانة الاستثنائية ميرل استريب بجائزة السعفة التذكارية لإنجاز العمر، عن رحلة عطاء كبيرة حققت خلالها إنجازات غير مسبوقة، مدعمة بالأرقام.
3 مرات أوسكار و21 ترشيحا، الجولدن جلوب 8 مرات و32 ترشيحا، ولكن عندما اختارت (النيويورك تايمز) أفضل 25 ممثلا فى القرن 21 لم يأت ذكر اسمها، وهو ما يؤكد أنه لا يوجد مطلق أبدا فى التقييم الفنى، وهناك من يرصد قدرا من التنميط فى أدائها، ورغم ذلك فإن هذا الخلاف يظل فى إطار الأخذ والرد، ويبقى بالنسبة لى عند تأمل مسيرة فنان، علينا التوقف عند الصورة الذهنية التى حققها لدى الأغلبية، لتؤكد أن ستريب حالة إبداعية خاصة.
لم تدافع مثلا عن نفسها عندما لم تذكر بين الأفضل، قائلة أنا لدى أرقام لم ينلها أحد، لم تدخل يوما فى معركة شخصية من هذا القبيل، أدركت أن الاختلاف عليها وارد ومنطقى.
تتعامل مع كل التفاصيل بقدر من الصراحة، والشفافية، لم تنكر مثلا أنها استخدمت (البوتوكس)، إلا أنها بعد ذلك قالت إنه يحيل النساء فى العالم ليصبحن مجرد أسماك ملونة فى حوض من الماء، ويقتل بداخلهن التفرد، وقررت ألا تصبح من بعدها (سمكة ملونة)، ولم تكرر التجربة مبتعدة عن كل مغريات (حوض السمك)، الذى يقدم دعوة مباشرة باختصار ليس فقط عاما أو عامين ولكن عقودا من الزمان، وكلنا نتمنى ألا تسرف الأيام بوضع بصماتها على ملامحنا، ولكن فى نفس الوقت علينا إدراك أن لا أحد يستطيع إيقاف رأى الزمن على الوجوه، وتبقى مشاعرنا هى فقط التى نملكها، هل تعيش ميريل ستريب من أجل الفن، أم أن الحياة لها عليها أيضا حق؟.
الفن أم الحياة؟، سؤال كثيرًا ما يتردد فى حياة كل المبدعين.. لا شك أن الإنجاز الفنى يمنحنا حياة بعد الحياة، إلا أن «ميريل ستريب» عندما سألوها: ما الذى تتمنين أن يكتب على قبرك؟، أجابت: لا أحب أن أرتبط بمجال عملى- تقصد أفلامها وجوائزها- ولكن هى شخصيتى أكثر الأشياء التى تتحدث عنى ولهذا فأنا أريد تسجيل نفسى فى ذاكرة الناس كـ«امرأة»، وأحب أن يكتب على قبرى هذه الفنانة مثلت أدوارًا متعددة كانت بالنسبة لحياتها أدوارًا ثانوية؟!.
«ميريل» لا تريد أن يذكر لها الناس مثلًا فيلم «كرامر ضد كرامر»، تريدهم أن يعتبروا كل ما حققته فى حياتها من أعمال فنية جزءا مكملا للصورة، رتوشا على اللوحة، أما اللوحة التى تعتز بها فإنها الإنسان، تريد أن تعيش تلك الحياة بكل تفاصيلها كأم وزوجة ومشاركة فى الحياة السياسية،. المعنى العميق فيما ذكرته «ميريل ستريب» أن البعض يستغرقه الفن عن معايشة الحياة، ينسى أنه إنسان خلق لكى يعمل ويسعد الآخرين إلا أن عليه فى غمار الحياة التى لا تتوقف معاركها، أن يعلم أن العمل ليس هو كل شىء فى الوجود.. بالطبع الناس لا يعنيها فى نهاية الأمر هذا الفنان ما الذى فعله فى حياته، تزوج أو تزوجت هل أنجب هل اهتم بتربية أبنائه، ما يعيش فى ذاكرة الناس هو بالتحديد ما قدمه من إبداع؛ أغنية، فيلم، مسرحية.. الفنان فى مقياس الناس هو مشروع فنى لا يزال تحت قيد الاكتمال، إلا أنه فى مرآة نفسه ينبغى أن يكون إنسانًا، عليه واجبات ينبغى أن ينجزها.. وهكذا مثلًا نرى الفنانين الكبار يشاركون فى قضايا الوطن بل وقضايا العالم كله، بدون أن يسألوا عن المكسب والخسارة.
ميريل ستريب بهذا التكريم تنضم إلى قائمة من كبار المبدعين الذين حصلوا على (سعفة كان الفخرية)؛ مثل مايكل دوجلاس وودى ألان وجين مور وكاترين دينيف والمخرج البرتغالى مانويل أوليفيير بعد أن بلغ المائة من عمرةهوبالمناسبة شاهدته أمام قصر المهرجان عند حصوله على الجائزة متمتعا بلياقة بدنية وذاكرة حديدية، منذ أن بدأ مشواره بتقديم الأفلام الصامتة، ورحل بعد أن أتم 100 بنحو 5 سنوات، وظل حريصا على المشاركة بأفلامه فى (كان)، ومن الحاصلين عليها أيضا كلينت استود وجان بول بولموندو وألان ديلون وجودى فوستر وفوريست ويتكر وتوم كروس.
وأتصور أن عمر الشريف كان من الممكن أن يحصل عليها، وربما يوسف شاهين أيضا، لأنه يعد من أكثر المخرجين فى العالم الذين شاركوا بأفلامهم طوال تاريخ كان.
يوسف حصل على سعفة تذكارية فى اليوبيل الذهبى (50 عاما) على المهرجان وذلك عام 1997.
كان وسيظل البريق والوهج للنجوم الأمريكيين ولسينما هوليوود المسيطرة على أكبر مهرجان أوروبى، والدليل هو تلك الحفاوة التى سنشاهدها مساء اليوم عند تتويج ميريل ستريب، بالسعفة التذكارية!!.