بقلم -طارق الشناوي
نحن جميعا أسرى ما تعودنا عليه، نمارس فى البداية نوعا من المقاومة اللاشعورية لكل ما هو جديد، حتى يفرض حضوره ويطبق قانونه. محاولة طرح السؤال فصحى أم عامية؟ ودفعه لمقدمة الكادر عند الحديث عن مسلسل (الحشاشين)، أزاه فخا اندفع إليه البعض بحسن نية، على طريقة (بص العصفورة)، وعندما تطيل النظر لأعلى يسرق المحفظة. مؤكد عمق المسلسل أبعد بكثير، والهدف هو فضح التطرف، وتمزيق الرداء الذى يتخفى تحته.الكاتب عبد الرحيم كمال والمخرج بيتر ميمى، تنبها إلى أن الحقيقة المطلقة معدومة، وفى التاريخ أكثر من رواية وإطلالة وزاوية رؤية، ودائما لدينا الكثير من الالتباسات، التى أوقعنا فيها المؤرخون، بينما المزايدون، وجدوا أمامهم هدفا مضمونا يستطيعون من خلاله تمرير أفكارهم أو بالأحرى شطحاتهم.
عند الحديث عن طائفة الحشاشين وزعيمهم حسن الصباح، نكتشف أن الخرافة مثل كل الحكايات الشعبية سيطرت على الحقيقة، ولهذا وبذكاء ستقرأ أول بند فى قانون المشاهدة، مكتوب على (التترات) هذا التحذير (أبطال وأباطيل من وحى من التاريخ)، 180 درجة بين الأبطال والأباطيل، ومثلها بين التاريخ ومن وحى التاريخ، لا يوجد مرجعية لكل من يريد محاسبة صُناعه على التاريخ، لأن هناك أكثر من تاريخ وأكثر من وثيقة.
علينا إذن أن نطل بعين صُناع العمل الفنى، واختيار اللغة أو اللهجة واحد من بنود الاتفاق.
البعض يعتقد أن الفصحى قرينة بالأعمال التاريخية والمسرح والأدب العالمى، لأننا نشأنا على ذلك، وصارت فى (الجينات)، هكذا عودتنا فى الماضى الدراما الإذاعية ثم انتقلنا منذ عام 1960 للتليفزيون، (فصحى أم عامية؟) تبدو أقرب إلى تقسيم بين المواطنين، مثقف أخذ قسطا من التعليم يستوعب مفردات الفصحى وآخر لن يتفاعل معها، كما أن هناك تفرقة أكثر خطورة، الفصحى لها مكانتها فى الضمير الجمعى أعلى من العامية، وشاعر الفصحى يتقدم عادة الصفوف، بينما يقف شعراء العامية فى نهاية الطابور.
الاستسلام لقاعدة أو عرف اجتماعى لا يعنى بالضرورة صوابه، اللغة اتفاق مسبق، وهكذا كثيرا ما نشاهد أفلاما تجرى أحداثها مثلا فى فرنسا أو الصين، بينما كل الأبطال والشخصيات الثانوية تتحدث بالإنجليزية، ولو طبقنا معايير الواقع ستسقط حتما مع المشاهدة الأولى، إلا أنها نجحت لأنها تعبر عن حقيقة ارتضيناها جميعا. عمر الخيام يتكلم ويكتب بالفارسية (ورباعيات الخيام)، التى نسمعها فى (التترات) هى المعادل الموضوعى بالعربية عبر عنها أحمد رامى لما كتبه الخيام بالفارسية.
سـتألف كمشاهد اللهجة المصرية فى المسلسل مع تكرار حلقاته، وسيسقط الإحساس الأول بالغربة، مع ضرورة التأكيد أن العامية مثل الفصحى درجات، العامية التى كتب بها (بيرم التونسى) روائعه، مثل (شمس الأصيل) لأم كلثوم، غير العامية التى كتب بها (الريس بيرة) لأحمد عدوية (السح الدح امبوه)، هذا هو سر الإبداع فى النص الدرامى، الذى كتبه عبد الرحيم كمال فى اختيار مفردات العامية.
بما يتوافق مع الشخصيات، كما أنه يبتعد ومع سبق الإصرار عن الكلمات المستحدثة التى دخلت العامية فى العقود الأخيرة، لأنها ابنة هذا الزمن، فلا يمكن أن نصف امرأة فى المسلسل مثلا بأنها (مزة) أو نجد فى الحوار تعبيرا مثل (فكك من فلان) أو (احلق لفلان).
استخدام العامية بقدر ما يمنح شعبية للعمل التاريخى يفرض عليه الكثير من المحددات.
ويبقى بعد ست حلقات مشاهدة، أننا أمام شاشة جاذبة، قدمها بيتر ميمى بقدر كبير من الألق، وسينسى الجمهور لغة الحوار فصحى أم عامية، ليتعايش مع ما هو أهم، العمق التاريخى والفكرى الذى تنضح به الشاشة!!.