تجتاز أميركا مرحلة استثنائية، لا سيما على صعيد انتخابات الرئاسة العتيدة، التنافس الحاد بين الحزبين مألوف، لكن الشاذ اليوم هو الخلافات الداخلية في الحزبين حول موثوقية مرشحيهما، الإشكالية بشأن قدرات الرئيس - المرشح الديمقراطي جو بايدن الفكرية والذهنية والجسدية لم تَعُد طرحاً جمهورياً، بل باتت تناقَش ضمن كواليس الحزب الديمقراطي وبيئته الشعبية.
الأزمة لا تقتصر على الحزب الديمقراطي، بل يطال القلق بعض الجمهوريين، في حال عجز مرشحه دونالد ترمب عن تجاوز الدعاوى والأحكام القضائية بحقه، وبعضهم الآخر غير راضٍ عن شخصية المرشح وخلفياته.
والشاذ أيضاً هو مشروع 2025 الذي أعدّه غُلاة المحافظين، ويقدم نموذج حكم يميني، يتضمن تغييرات دراماتيكية في البنية السياسية والثقافية الأميركية، في تأكيد لخوف الديمقراطيين من أن فوز دونالد ترمب يهدّد القيم الديمقراطية الأميركية. وسط هذه الضبابية والتجاذب الحاد في الداخل الأميركي، انعقدت في واشنطن قمة «الناتو» في الذكرى 75 لتأسيسه، وهو حجر الزاوية في العلاقات عبر الأطلسي، وهواجس كثيرة تحوم حول مستقبله.
تمكّن «الناتو» عبر تاريخه من تجاوز تحديات كثيرة، بدءاً من الخلافات حول حرب السويس 1956، إلى حرب كوسوفو 1999، وقبلها الجدل حول الصواريخ الأوروبية، والسجالات حول التعويل على الحماية الأميركية والإفادة المجانية منها، التي يندّد بها ترمب وغيرها الكثير.
اليوم، ما يهدّد مستقبل «الناتو» بات يتجاوز توجّهات زعماء أفراد مثل ترمب أو مارين لوبان، لتصل إلى المد الشعبي المؤيّد لهذه التوجهات. وتأتي في هذا السياق نتائج الانتخابات في فرنسا، وهي من القوى الرئيسة في الحلف، في ظل عدم حصول أي معسكر على أغلبية مطلقة تسمح له بتشكيل الحكومة الجديدة.
هواجس أخرى لدى «الناتو» قد يغذّيها فوز ترمب، تتمثل بالقوى الانعزالية، التي تعمل على التباعد بين أوروبا والولايات المتحدة، وستتواصل هذه الجهود، بصرف النظر عما يحدث في الانتخابات الأميركية، أو في أوكرانيا، أو في أوروبا ذاتها، الأوروبيون والأميركيون يخشون تحقّق ذلك، والسؤال هو مدى سرعة حدوثه وكيفية تلافيه، أو على الأقل تأخيره.
متغيرات تبثّ القلق والحذر في أكثر من دولة ومنطقة جرّاء ما قد يتأتى عن وصول ترمب إلى الرئاسة، وعدم القدرة على التكهن بما سيُقدِم عليه تجاه أكثر من نزاع وقضية.
إذا قُدّر لترمب الفوز سيشهد العالم على الأرجح أميركا بوجه متغير، من سماته رؤية ترمب لدور أميركا في العالم، التي تميل بشدة إلى انسحابها من قضايا ونزاعات دولية كثيرة. رؤية ترمب تتعدّى تغيير مَنحى العلاقات مع هذه الدولة أو تلك؛ لأنها متداخلة دون تنسيق، مثلاً علاقته الجيدة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيكون لها انعكاساتها على الموقف الأميركي من الحرب في أوكرانيا، وما قد يُسفر عنه من خلافات مع الشركاء الأوروبيين فيما بينهم ومع واشنطن، كذلك لا نعرف كيف ستكون العلاقة مع الصين، والمرشّحة للتوتر وأزمة تايوان على الأبواب، هل العلاقة الجيدة مع بوتين تعني تهدئة مع إيران؟ أم أنه سيمضي بما بدأه أيام ولايته؟
ما يعني الإقليم هو التحوط للمرحلة الجديدة في حال وصول ترمب. من المعروف بدايةً أن التأثير الإسرائيلي اليميني على ترمب والحلقة المحيطة به كبير جداً، وما قام به أيام رئاسته دليل على ذلك، فهل المنطقة قادرة على تحمّل المزيد من الدعم والانحياز الأميركي لإسرائيل؟ هل تتحمّل المنطقة مرحلة جديدة لنتنياهو أو مَن هم على شاكلته؟
إلى هذا، بعد كل المتغيرات التي تلَت حرب غزة، من المحتمل أن يطلق ترمب اتفاقات إبراهيمية بصيغ جديدة، وأن يعدل عن صفقة القرن بمشروع تسوية للفلسطينيين باسم مشروع ترمب 2، كذلك قد يطرح معادلة الشرق الأوسط المفيد، المبني على التعاون الاقتصادي والإنمائي، ولمشروعه للتسوية الفلسطينية، مقابل الشرق الأوسط المؤدلج والعنيف، كذلك لا نعرف توجهاته بالنسبة للعلاقات الإستراتيجية مع الشركاء العرب، وما إذا كان سيتابع ما بدأه بايدن، أو يعدل عنه وينسفه، ويدفع الشركاء العرب إلى تعزيز العلاقات مع الصين، على حساب العلاقة مع أميركا وأوروبا.
أفكار وسيناريوهات قد يتحقّق بعضها وقد لا يتحقّق، وإذا تحقّقت لن ترضى بها شرائح واسعة في المنطقة، وخصوصاً الفلسطينيين، وحتى بعض الدول العربية، الرهان على تمكّن بايدن قبل نهاية الولاية من حسم بعض الملفات، وأهمها التعاون الإستراتيجي مع الشركاء العرب، والبدء بمسار حل الدولتين.
التحولات المقبلة تحتّم حل مشاكل المنطقة محلياً وإقليمياً، إضافةً إلى مواجهة التعقيدات المستجدة على الصعيد الفلسطيني - الإسرائيلي إذا تم التراجع عن حل الدولتين، وغلبت المقاربة الأمنية الإسرائيلية والحمساوية المدعومة إيرانياً على السياسة والدبلوماسية.
الرقم الصعب هو إيران وأدوارها في المنطقة، والسؤال يبقى: كيف سيتعامل ترمب مع إيران على خلفية التقارب مع بوتين والصداقة مع نتنياهو؟