النظام الدولي وبدائل الدول

النظام الدولي وبدائل الدول

النظام الدولي وبدائل الدول

 صوت الإمارات -

النظام الدولي وبدائل الدول

سام منسى
بقلم - سام منسى

لعل النتيجة الأهم والأبرز للانسحاب الأميركي من أفغانستان ليس الهزيمة الأميركية، إذا صح أنها هزيمة، ولا انتصار حركة طالبان، وتداعيات سيطرتها مجدداً على البلاد، بل دلالات الاعتراف الدولي للمرة الأولى بسيطرة منظمة متشددة دينياً على الحكم في دولة معترف دولياً بشرعيتها، على ما يُتوقع أن يحصل. ليست المرة الأولى التي تؤسس فيها ميليشيا دولة، فقد سبق لـ«داعش» أن دشنت هذه السابقة. كما أنها ليست المرة الأولى التي تنتصر جماعات ثورية وتشكل دولة بقوة سلاحها. ولكن الجديد الخطير أن عناصر الحركة ليسوا جميعاً من أبناء البلاد، بل هم جهاديون استُقطِبوا من جميع أنحاء العالم.
لا شك أن ما مهد لهذا التوجه هو توقيع واشنطن على اتفاقية مع «طالبان» لإنهاء وجودها في أفغانستان. هذا التوقيع جاء دليلاً أساسياً على اتجاه عميق مستجد في النظام الدولي يعزز أدوار الجماعات المسلحة بديلاً عن السلطات القائمة. فالتسوية مع «طالبان» إشارة - إن لم تكن اعترافاً - إلى أن الدولة الأفغانية التي ساهم الأميركيون بقوة في تثبيت ركائزها لم تعد صالحة بصفتها شريكاً في العملية الانتقالية.
ما حدث يبدو أنه فصل جديد من العمل السياسي، كما في النظام الدولي، وقد جاء نتيجة لتراكم أدوار وأنشطة هذه الجماعات المسلحة منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، إضافة إلى دعم أميركا للمنظمات المسلحة (الجهادية) التي قاومت الغزو السوفياتي لأفغانستان في السنة ذاتها.
فمنذ أكثر من أربعين سنة ونظام إيران يدعم بالمباشر والمواربة جماعات خارجة عن الدولة ويدربها ويمولها وينشرها في الإقليم تحت شعار تصدير الثورة، فتضخمت على مر السنين ظاهرة تفريخ جماعات مسلحة عنيفة مؤدلجة في الدول المقصود استمالتها والسيطرة عليها. جماعات لا تحمل مشروعاً سوى الاحتراب، وتعمل وتنتفخ عبر استفزاز الدول، وزعزعة كيانها وشرعيتها، والاستقواء على مؤسساتها الأمنية وهيئاتها المنتخبة، واختطاف صناعة قرارها. هذه الممارسات لم تقتصر على الجماعات التي أنشأتها إيران، فوجودها حفز الغلاة من جماعات التشدد السنية على النمو والاستقواء.
حالة «طالبان» ليست وحيدة ولا منفردة، فقد سبق لحركة حماس الفلسطينية أن فرضت نفسها على السلطة الفلسطينية، ورفضت مخرجات العملية السلمية برمتها، واتفاق أوسلو بين منظمة التحرير وإسرائيل، وفرضت بالقوة انقساماً قاتلاً وسلطة برأسين متنازعين متناحرين، ما أرهق الناس، وقوّض السلطة الفلسطينية، وأربك المفاوض الفلسطيني، وجعل من السلام الإسرائيلي - الفلسطيني سراباً، الأمر الذي أراح طبعاً المفاوض الإسرائيلي، أكان من الصقور أم الحمائم.
وها هو «حزب الله» يشد على خناق دولة لبنان بسلاحه المذهبي في أدوار إقليمية، متجاهلاً قرارات الدولة، متمادياً في تطويعها إلى حد تقويضها، ويتعالى على واجب الشورى مع بقية مكونات المجتمع إلى حد احتقار إرادتها.
وفي النموذج اليمني، نرى أن «الحوثيين» بددوا مكتسبات الدولة الحديثة على ضآلتها، وانخرطوا في تناحر أهلي مدمر بلا روية ورؤية، بمؤازرة من إيران إرضاءً لنزعتها التوسعية.
كل هذه النماذج موجودة قبل الحدث الأفغاني الأخير والتسوية مع «طالبان»، إنما المقلق جراء ما يجري هو الهرولة من أطراف عدة في الدول الغربية، على التساهل، بل تجاهل أمور كثيرة، أبرزها بروز تنظيم داعش في أفغانستان، وإعلان مسؤوليته عن تفجيرين انتحاريين في توقيت ذكي يشي برسائل إلى جهات عدة.
الحكمة تقتضي التريث قليلاً لرصد حقيقة تداعيات الانسحاب الأميركي، خاصة على دول المنطقة. فغزارة الفرضيات والنتائج والأحكام والبناء عليها تحجب الرؤية، سواء صدرت عن المهللين المنتشين بانتصار «طالبان» أو أولئك المرتبكين من نتائج هذا الحدث الخائفين من أن يكون الانسحاب الأميركي من أفغانستان هو المدماك الأخير في سياسة تخليها الكامل الدائم عن المنطقة. فهل هذا صحيح؟
طبعاً، الإجابة الواضحة المسنودة متعذرة، إنما لا بد من التذكير بعاملين مؤثرين على سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط، وانخراطها في أزماته. فرغم أن الانسحاب، أو الأصح عدم التورط العسكري في حروب الإقليم، هو سياسة استراتيجية شبه مجمع عليها في واشنطن، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار العامل الأول، وهو وجود إسرائيل في قلب الشرق الأوسط، ومن السذاجة والتبسيط إسقاطه ودوره في القرارات والسياسات الأميركية تجاه الإقليم. فمع كل المتغيرات الحاصلة في العلاقات بين البلدين، فهي لن تؤدي إلى انقلاب في العلاقات الاستراتيجية كائناً من كانت الجهة الحاكمة في واشنطن وتل أبيب، لأن المصالح الحيوية المشتركة أساسية متجذرة، وأي تغيير جدي يُحكى عنه ليس بالمستقبل القريب أو المتوسط.
أما العامل الثاني، فهو ما عودتنا عليه السياسة في واشنطن، من أن التغيير نتيجة الانتخابات، سواء الرئاسية أو التشريعية، له تأثيره على مواقفها الخارجية. ومهما قيل عن ثبات الخط البياني لسياسات الإدارة الخارجية منذ رونالد ريغان المنسحب من لبنان عام 1983 إلى جو بايدن المنسحب من أفغانستان عام 2021، فما قام به دونالد ترمب إبان ولايته، خصوصاً تجاه إيران وسياسة العقوبات القصوى، يؤشر إلى إمكانية تغيير مقبل في سياسات واشنطن. والحدث الأفغاني الأخير، وما آل إليه لجهة طريقة الانسحاب المتسرعة خاصة، ستكون له تأثيرات، ولو محدودة، على صناعة القرار الأميركي تجاه أكثر من قضية في الإقليم، من إيران إلى العراق إلى سوريا.
والأرجح أن الرئيس بايدن يشعر بحجم الأخطاء المرتكبة، وهو السياسي المخضرم، على عكس فريقه ومعظم المحيطين به من قليلي الخبرة في السياسة. ولعله يعي أن حماية الولايات المتحدة من العمليات الإرهابية لا تقتصر على تعهدات «طالبان»، بل تعتمد أساساً على تعزيز الدولة في أي بقعة من العالم لمحاسبتها وفق معايير الشرعية الدولية. الدولة صاحبة الدور المحوري وقراراتها ليست رهن الجماعات الميليشياوية وعصابات أمراء الحرب المتمردة عليها التي تقتحم مؤسساتها وتسقط أركانها الشرعية. إن الفوضى داخل الكيانات وما بينها فاقمت هشاشتها الهيكلية من دون أن تقدم حلولاً وبدائل إلا منطق الغلبة والاستقواء، وتأجيج الفتن وتسعير الغرائز وتوهم انتصارات لا تجلب بعدها إلا الكوارث؛ كل ذلك يعزز مكونات الإرهاب، وجموح وانتشار الإرهابيين في أكثر من منطقة في العالم.
ما جرى في أفغانستان قد يبدو ضربة للدولة الوطنية في المنطقة، لا سيما إذا درجت سياسة الاعتراف بمثل هذه التنظيمات. وذلك في وقت ركائز الدولة الوطنية الحديثة، في غالبية الدول في منطقتنا، ما زالت تحتاج إلى عناية لوضعها على المسار التحديثي الديمقراطي، وتدعيم مبدأ المواطنة، ما يحد من تفشي الإرهاب الذي يخشاه الرئيس بايدن والحكماء من القادة الكبار.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

النظام الدولي وبدائل الدول النظام الدولي وبدائل الدول



GMT 17:50 2024 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

عودة الجغرافيا السياسية: حرب أوروبا

GMT 20:10 2021 الأربعاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

السم بالتذوق

GMT 20:03 2021 الأربعاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

مراهنات خطيرة في السودان

GMT 19:59 2021 الأربعاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

الحرب الأهليّة في تأويل «حزب الله» لها

GMT 19:55 2021 الأربعاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

السعودية... الحقبة الخضراء

GMT 18:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 صوت الإمارات - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 01:44 2018 السبت ,29 كانون الأول / ديسمبر

جيمي أيوفي يستمتع مع أسرته في "أتلانتس دبي"

GMT 10:11 2012 الثلاثاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

وزير الطاقة الإثيوبي: في طريقنا لاستكمال مشروع سد النهضة في 2015

GMT 19:07 2018 الأحد ,28 تشرين الأول / أكتوبر

اسباب تضخم الكبد وطرق العلاج

GMT 18:36 2018 الأربعاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

صفّ السيارات يتسبب في مشاجرة بالضرب بين رجل وفتاة في تكساس

GMT 20:58 2013 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

أول اجتماع لرئيس التليفزيون لبحث تطوير القنوات المصرية

GMT 06:43 2015 الجمعة ,19 حزيران / يونيو

الطقس في الإمارات الجمعة مغبرًا جزئيًا

GMT 01:51 2016 الثلاثاء ,29 آذار/ مارس

افضل التصاميم البارزة لأحذية ربيع 2016

GMT 11:53 2013 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام مسابقة الخطابة باللغة العربية للجامعات الصينية

GMT 22:33 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

إطلالة مثيرة للموديل هايدي كلوم في حفل "أمفار"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates