بقلم - خالد منتصر
فى زمن الرئيس مبارك تم تقديم كتابى «وهم الإعجاز العلمى» إلى لجنة مكتبة الأسرة حينذاك وتحمّس المرحوم د. فوزى فهمى، ولكن تم رفضه من شيخ شهير وأجبر د. فوزى على الرضوخ لقرار الشيخ، تمضى الأيام، وإذا بشباب من المغرب يرسل لى رسائل على الإيميل وإنبوكس الفيس بوك يخبروننى بأنهم قد قرأوا على النت مقالاتى عن الإعجاز العلمى، وأنهم مقتنعون بكل كلمة فيه، وأن منهم من ناقش كبير الإعجازيين نفسه فى ندوة عُقدت هناك وأحرجوه ولم يجدوا منه رداً مقنعاً، لدرجة أنه غضب واتهمهم بأنهم عصابة أشرار!!، ويشكروننى على هذا الكتاب.
أخيراً بعد كل تلك الأعوام وبعد كل هذا الهجوم الشرس والسباب السافل والتهديد الصارخ والتربّص الخانق، يظهر لى بريق أمل، ولكنه شعاع ضوء من نافذة الغرب من فاس، حيث عقدت ندوة هذا الإعجازى الذى اتضح أنه إخوانى متعصب بعد ٢٥ يناير، تهاوت الأسطورة الكرتونية وانقشع غبار الوهم على أرض المغرب، أحرجه الشباب المغربى بأسئلة منطقية، حاصروه بمعارف القرن الحادى والعشرين التى من خلالها وبضغطة على الكى بورد عرفوا وتيقنوا أن كل ما يردّده فبركات وتلفيقات وبضاعة أتلفها الهوى الفاسد للإسلام السياسى، الذى لم يترك ثغرة اجتماعية ولا إعلامية إلا ونفذ منها، ليخرب العقل ويسمم الروح، كنت أتمنى وقتها طبعاً أن يكون هذا فى بلدى على أرض مصر المحروسة، ولكن العالم صار قرية صغيرة وما حدث فى «فاس» لا بد أن نجد صداه قريباً فى القاهرة.
تعلمت من شباب المغرب الذى أنقذنى من إحباطى أن دورى هو أن أبذر البذرة ولا أنتظر الحصاد، وأيضاً ألا أخاف من غربان الحقل وخفافيش الكهوف، فحتماً ستثمر البذرة ويبزغ النور، ولا بد من دفع فاتورة التنوير الذى للأسف نقاومه ونخشاه، رغم أنه الحل والأمل.
بعد أن منحنى شباب المغرب الأمل، وبعد أن تفاعل مع أفكارى وما أكتبه ضد فكرة الإعجاز متابعون من مصر ومن جميع البلاد العربية، ومنهم من كان يهاجمنى بضراوة، وتحول بعدها إلى مقاتل ضد خرافات الإعجاز، بعدها قررت أن أكتب هذا الكتاب مرة أخرى وأتوسّع فى شرح الفكرة، ما كتبته هنا ضعف حجم حلمى القديم، فقد أصلت فيه للفكرة وأجبت عن سؤال لماذا أنتقد فكرة الإعجاز العلمى؟، وكيف أنها مخربة للدين والعلم على السواء؟، وانتقلت فيها من التأصيل والتنظير للفكرة إلى توثيق معاركى مع تجار الإعجاز، التى لم تكن سهلة أبداً، والتى ما زالت مستعرة ومشتعلة حتى تلك اللحظة التى تقرأون فيها هذا الكتاب، ما بين تهديدات وقضايا وبلاغات وبرامج مخصوصة تشتمنى وتسبنى وتلطخ سمعتى وتغتالنى معنوياً وكتائب إلكترونية تقرصن وتنشر سفالات وضيعة ومنحطة.. إلخ.
بالطبع دفعت الثمن من أعصابى ومن أمانى وعيشى دائماً على حافة الخطر، مقتنعاً بأنها ضريبة ولا بد أن أدفعها، فلا يمكن أن تجرى جراحة زرع مخ دون أعراض جانبية ومضاعفات فكرية، مستحيل أن تغير البديهى والمألوف وأن تخرج مجتمعاً من دفء القطيع وأمان الأفكار المستقرة التى تربوا لمئات السنين على أنها مقدسات وثوابت، هذه المعارك ليست كل المعارك ولكنها مجرد عينة لتدريب الشباب على الرد والحوار وعدم الرهبة والفزع من زعزعة وخلخلة ما يظنه الناس ثوابت وبديهيات.
لم أكتفِ بالمعارك التى خضتها مع دجالى الإعجاز ولذلك قررت أن أقدم فى الجزء الأخير من الكتاب صوراً من الإعجاز العلمى الحقيقى المختلف عن إعجازاتنا الوهمية، لكى يعرف القارئ أين نحن بعجزنا؟، وأين هم بإعجازهم ومعجزاتهم؟، لكى يتأكد ويحسم مع نفسه طريقة الحل ويرسم طريق النجاة، طريقة التفكير النقدى المتشكك، وطريق المنهج التجريبى النسبى بخريطة العلم.
توجّهت فى الكتاب بالشكر لأسرتى التى احتملت معى كل تلك المخاطر والصعاب فى سبيل قضية لم تجلب لهم إلا الصداع، وأفقدتهم مزايا مادية كثيرة كنت سأحققها لهم لو توجّهت إلى الشاطئ الآخر، حيث تجار خرافة الإعجاز يحصدون المليارات من الدولارات، ويحصدون أيضاً التكريم والدلع والحفاوة والمكانة، لكنهم شاركونى كل لحظة داعمين واثقين من صدق وعدالة وأهمية قضيتى، قضية العلم الحقيقى لا المزيف، وأتوجه بالشكر لكل من علمنى حرفاً عن أهمية التفكير العلمى، وعلى رأسهم الراحلان الجميلان د. أحمد مستجير أستاذ الوراثة، ود. فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة، كتبته رغبة فى أن يكون بذرة عقل فى تربة نمو وازدهار، لا فى تربة دفن ونسيان.