بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي
محاولات إعادة تفسير التاريخ تفشل حين تكون أهدافها شخصية أو مصلحية ضيقة. قبل قرنين من الزمان، وفي شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1824، دخل تركي بن عبد الله مدينة الرياض، واستسلمت له الحامية التركية، وأعلن طرد المحتلين العثمانيين واستعادة الدولة السعودية التي سقطت قبل سنواتٍ معدودة حينذاك، وأعلن الرياض عاصمة للدولة الجديدة، وكان ذلك حدثاً تاريخياً استثنائياً في قصة تشبه الأساطير غير أنها موثقة ومؤرخة وليست محل نقاشٍ أو جدال.
بعد يومين من نشر هذه المقالة، يدخل شهر أكتوبر 2024، وهو ما يوافق بالتمام والكمال مرور مائتي عامٍ على دخول الإمام تركي بن عبد الله لمدينة الرياض وإعلانها عاصمة جديدة للدولة بعد تهدم الدرعية. ومنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا بقيت الرياض عاصمة للدولة السعودية.
مقالة الأسبوع الماضي كانت تحكي عن السعودية قبل مائة عامٍ (1924). وهذه عن السعودية قبل مائتي عامٍ (1824)، وتليها أخرى عن السعودية قبل ثلاثمائة عامٍ، ومنطق التاريخ يثبت أن استمرار الدول لقرونٍ متطاولة إنما هو نتيجة طبيعية لرغبات الشعوب وكفاءة القيادات وسلامة النهج.
سقطت الدرعية على يد إبراهيم باشا بعد ملحمة بطولية كبرى، وأسر العديد من أسرة آل سعود ونُقِلوا إلى مصر، غير أن تركي بن عبد الله لم يخضع، وتسلل من حصار الدرعية إلى نجد الفسيحة كأسدٍ جريحٍ، واشتد الأتراك في طلبه والبحث عنه ولم يظفروا به، والتجأ إلى غارٍ في هضبة علية، في واحد من أطول مواقع سلسلة جبال طويق، وفي زيارة لهذا الغار في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 وقف عدد من الباحثين السعوديين، ومنهم كاتب هذه السطور على هذا الغار العجيب المنيع، الذي يجمع موقعه بين وعورة التضاريس وصعوبة الوصول إليه، وسهولة رصد أي قادمٍ يثير الريبة أو الشك. وفي هذا الغار بقي تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية سنواتٍ منفرداً وحيداً، ليس معه إلا عقله الذكي وقلبه الشجاع وسيفه «الأجرب»، يعيد قراءة أحداث التاريخ القريب ويقيّم الأخطاء ويخطط ويستعد لإعادة الكرة، مرة بعد مرة.
خرج تركي بن عبد الله من الغار، وجمع ثلة قليلة من الأنصار، وبدأ مشروعه في استعادة الدولة، في سلسلة من المواقف والقصص الملحمية التي تتجمع مع بعضها لتبني هرم النجاح الكبير، مثل قصة «سابوط» في عرقة، وقصة «العشاء الدموي» في ضرما، وقصص لا تُحصى أبانت عن شجاعة نادرة وقوة قلبٍ لا تعرف الخوف، وشخصيته الفذة ذات «الكاريزما» اللافتة هي ما جمعت حوله أفذاذ الرجال الذين شاركوه الحلم والطموح.
أعاد تركي توحيد البلاد تحت رايته وطرد المحتلين، وجمع شمل المدن والقرى المتناحرة والقبائل المتحاربة، ورسّخ الشرعية السياسية والسيادة الوطنية وفرض الأمن الشامل وشرع في مشاريع لتوحيد الأنظمة والمرجعية القانونية، والتفت لخطط البناء والتنمية، ومشاريع الاستقرار والأمن.
لكأنَّ المؤرخ الفرنسي المعروف فيلكس مانجان الذي كانَ بمصر إبان سقوط الدرعية نظر من سجف الغيب، حين تنبَّأ بعودة الدولة السعودية بعد سقوطها، وما ذاك إلا لأنَّه مؤرخ يعرف منطق التاريخ وطبيعة البشر، فقال: «واليوم استولى الترك على بلاد نجد، فأعادوها إلى ما يشبه حالتها الأولى من الفوضى، ولكن بذور العقيدة التي أُودِعت بعمق في تلك الأرض الطيبة كالنفس الطيبة سوف تنبت من جديد، والأغصان التي عرَّاها الترك من أوراقها سوف تورق وتنوّر وتزهر، فتعود تلك الصحراء بستاناً، وتعود دولة الإيمان التي ظن محمد علي أنه قضى عليها». وهكذا كان؛ فبعد سنواتٍ خرج تركي بن عبد الله، وقامت على يده الدولة السعودية الثانية.
قبل سنواتٍ ثلاثٍ كتب ثلاثة باحثين، هم: د. راشد العساكر، ومشاري الذايدي، وكاتب هذه السطور، فكرة لصناعة احتفالية كبرى بالمئوية الثانية لتأسيس الدولة السعودية الثانية، أسوة بما صنعه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، في الاحتفال بالمئوية الأولى لدخول المؤسس الملك عبد العزيز، الرياض، وكانت الاحتفالات في عام 1999.
وجاء في تفاصيل فكرة الاحتفاء بالمئوية الثانية ما نصه: «تقترح هذه الفكرة إطلاق نشاط علمي وفني وتعليمي وإعلامي وسياسي وترفيهي ووطني عام لمواكبة الحدث، وأهمية ترسيخ الوطنية عبر الاحتفاء والتذكير بالمنجزات الكبرى، وهو ما يمثل استراتيجية ثابتة لدى الدول الكبرى في العالم».
أخيراً، فقد بنى الإمام تركي مشروعه وحيداً، في عقله وقلبه وطموحه، ثم حشد الأنصار وطبّق حلمه على أرض الواقع، وليس لأحدٍ عليه منة ولا فضلٌ، ومحاولات إعادة تفسير التاريخ تفشل حين تكون أهدافها شخصية أو مصلحية ضيقة.