لأكثر من أربعة عشر قرناً ظل المسلمون كل عامٍ يترقبون موسم الحج؛ لأداء ركنٍ من أركان الإسلام الخمسة، وليؤدوا فرضهم وينهوا مناسكهم و«ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوّفوا بالبيت العتيق»، ومع تزايد أعداد المسلمين لمليارٍ ونصفٍ مليار حول العالم، وتيسر سبل النقل الحديثة، وبالمقابل محدودية المكان في مكة والمشاعر، ومحدودية الزمان في ذي الحجة في أيامٍ معدوداتٍ، فقد اضطر المسلمون لصناعة سياساتٍ جديدةٍ.
من هذه السياسات التوافق على نسب معينةٍ من سكان كل دولةٍ لتأدية الحج كل عامٍ، وهو ما أجمعت عليه كل الدول الإسلامية، ولذلك شروطٌ ومعايير متبعةٌ، ومضى على هذا العمل عقودٌ من الزمن، وهو أمرٌ غير معروفٍ في الماضي القديم من تاريخ الإسلام، ولكن تغيرات الزمان والمكان والحال فرضت على المسلمين أن يطوروا مواقفهم وسياساتهم وخطاباتهم الدينية، وقد حدث ذلك فهوّن أداء الشعيرة.
لما يقارب القرن من الزمان، قامت الدولة السعودية برعاية الحج رعايةً كاملةً، وحمل ملوكها لقب «خادم الحرمين الشريفين»، فخراً واعتزازاً، ويحظى الحج بمكانة خاصة في رؤية 2030 التي يقودها ولي عهد السعودية، وقد سهّلت الكثير من الإجراءات على راغبي الحج والعمرة من المسلمين، وهيأت الحرمين الشريفين بتوسعاتٍ تاريخية وخدماتٍ عالية الجودة وفوق هذا كله وفرت الأمن والأمان التامين لأداء الفريضة والنسك في يسر وسهولة، وهي إنجازاتٌ تاريخيةٌ وتطويراتٌ معاصرةٌ شهد ويشهد لها الجميع بالذكر والكفاءة.
بعيداً عن التاريخ القديم وما جرى فيه من فتنٍ وحوادث تتعلق بالحج، فإنه بعد استقرار الدول الحديثة لم يستهدف الحج ويسعى لإبعاده عن دوره الديني كونه ركناً من أركان الإسلام إلا جهتان محددتان هما: الأولى، «الأصولية السنية» بما تشمله من «جماعة الإخوان المسلمين» أو نحوها من جماعات الإسلام السياسي، أو تنظيمات العنف الديني مثل «القاعدة» و«داعش». والثانية: «الأصولية الشيعية» أو النسخة الشيعية من حركات الإسلام السياسي، سواء من الدولة الراعية نفسها أو من الجماعات والأحزاب والميليشيات التابعة لها.
في حج هذا العام 1445 بالتاريخ الهجري، أو 2024 بالميلادي، تستمرّ الأصوليتان ذواتاهما في استهداف الحج، وهما - فقط - دون مليارٍ ونصف المليار من المسلمين، مَن تسعيان لتعكير صفو الحج، فالأصولية السنية و«التنظيم الدولي» لجماعة الإخوان وشذّاذ الآفاق من رموز الإسلام السياسي وجماعاته وتنظيماته، يصوغون حملة للتشكيك في أمان الحج للمناكفة السياسية، لا أقلّ ولا أكثر، والأصولية الشيعية تتحدث عن «البراءة من المشركين» في الحج، والأصوليتان تعلمان علم اليقين أن السعودية لم تسمح أبداً، ولن تسمح، بأي استغلالٍ سياسيٍ للحج من أي جهةٍ كانت، وبغض النظر عمّن يقف خلف ذلك الاستغلال.
في عهد الملك عبد العزيز، أدَّى حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الحج عشر مراتٍ تقريباً، ولكنّ الملك عبد العزيز رفض رفضاً قاطعاً أن يفتتح البنا فرعاً للجماعة في السعودية، وحذَّرت السعودية البنا من أي استغلالٍ للسياسة في الحج، وحمت البنا نفسه من استهدافٍ سياسيٍ لاغتياله في الحج.
مع علم الجماعة برفض السعودية لاستغلال الحج سياسياً إلا أنَّها كانت تستغل الموسم دائماً لشد عصب التنظيم وحشد الأتباع وترويج الآيديولوجيا، والأصولية الثانية مشت على الدرب نفسه، فبعد قيام «الثورة الإسلامية» تم نشر فكرة «تصدير الثورة»؛ بمعنى نقلها للدول العربية، ومن رحم هذه الفكرة خرجت بدعة «البراءة من المشركين» في الحج، وقد جرت أحداثٌ مؤسفةٌ على مدى العقود الأربعة الماضية يندى لها جبين الإسلام والمسلمين، ولكن السعودية كانت دائماً بالمرصاد لهاتين الجهتين.
في حج 1987، استهدفت عناصر مدربة من «الحرس الثوري» أمن الحجيج وقاموا بشراء أدواتٍ حادةٍ وقاتلةٍ من «سكاكين» و«سواطير» وعصي وغيرها وقاموا في مظاهرة حاشدةٍ بكل دمويةٍ وعنفٍ بقتل كل من في طريقهم من الحجاج الآمنين ورجال الأمن، حتى تصدت لهم «القوات السعودية» ببسالةٍ وأوقفتهم عند حدّهم، وفرضت الأمن والأمان بالقوة، وأتم المسلمون حجهم وقضوا تفثهم.
وجرى بعد ذلك تطوير الاستهداف، فأصبح عن طريق التفجيرات القاتلة في حج 1989، ولكن السعودية تنبهت لهم ثانيةً، وأصبحت تكشف كل الخطط والمؤامرات قبل وقوعها، وتحمي الحج والحجيج من أي استهدافٍ شريرٍ تحت أي شعارٍ سياسيٍ أو دينيٍ أو مذهبيٍ.
ما يثير الاستغراب والأسى هو أن هاتين «الأصوليتين» المتطرفتين تستهدفان موسم الحج والحجاج الآمنين تحت شعاراتٍ ترفع اسم «الإسلام»، وتدعي أنها تمثله وتدافع عنه، وهي تستهدف هدم ركنٍ من أركانه، وهو ما يؤكد حقيقة أن نقد هذه الخطابات الأصولية واجبٌ لا محيص عنه.
أخيراً، فأمن الحج وأمان الحجاج مهمةٌ كبرى نجحت فيها السعودية على الدوام، وحج هذا العام سيكون استمراراً للنجاح والأمن والأمان. وكل عامٍ وأنتم بخير.