بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي
النخب الدينية كانت دائماً برسم الصناعة، تربية وتعليماً وتأديباً وتأهيلاً، والأديان والمذاهب والمدارس السلوكية جميعاً صنعت ذلك وإن اختلفت الطرائق والأساليب والمدد الزمنية والأهداف المرجوّة من تلك الصناعة.
حتى تصبح «حبراً» يهودياً أو «قساً» مسيحياً أو «راهباً» بوذياً فتلك قصة طويلة تحتاج لجهدٍ وتعبٍ وتحتاج وقتاً طويلاً، وحتى تصبح فقيهاً شيعياً أو سنياً أو «شيخ طريقةٍ» متصوفاً متمكناً فتلك قصة طويلة أيضاً. وما جرى في العقود الأخيرة في الإسلام شيء مختلفٌ، فبعد ظهور حركات الإسلام السياسي أصبحت صناعة «المفتي» و«الفقيه» و«المحدث» و«الخطيب» و«الواعظ» سريعة ومستعجلة ويراد منها تحقيق أهدافٍ لا علاقة لها بالإسلام أو الدين عموماً، بقدر ما يراد منها بناء سلطة سياسية أو دينية أو اجتماعية أو جماهيرية.
لقد غلبت «الجماعة» أو «التنظيم» على «الفقه»، وسيطر الحشد والتجميع على «العلم» وقضت «السياسة» على «الأخلاق» وقضت «المصالح» على «التقوى» في سلسلة طويلة من عملية تحويلٍ تاريخية لعملية صناعة النخب الدينية لتصبح أسرع وتخدم أهداف الجماعة وتصبح أداةً فاعلة في الصراعات بين الفرقاء داخل المجتمع.
إن رصد هذا الانحراف في صناعة النخب الدينية عبر خطةٍ منظمةٍ «مفاهيم» و«خطاباً» ثم «مدارس» و«جامعاتٍ» وصولاً إلى «مجالس إفتاء» و«اتحادات فقهاء»، يعطي صورةً واضحةً ذات بعدين: الأول، أن هذا الانحراف يمكن إعادته لجادة الصواب، وصناعة نخبٍ دينيةٍ حقيقية تخدم «الفقه» و«الإسلام» دون أغراضٍ جانبيةٍ. والثاني، نزع القداسة عن كل هؤلاء الأفراد الذين يدعون الفقه والعلم والإفتاء وإعادتهم إلى قواعدهم الحركية والحزبية بسهولة ودون عناء.
«الجودة» الفقهية و«النزاهة» الأخلاقية و«خدمة» المسلمين هي عناصر يجب توافرها في النخب الدينية الجديدة، وهي بوصفها «نخباً» فهي قليلة العدد بطبيعتها وينبغي أن تبقى كذلك، فالمسلمون ليسوا بحاجة أن يتحولوا جميعاً إلى «فقهاء» و«مفتين» بل في ذلك تضييع لمصالح الشعوب والأفراد وإشغالٌ لهم عن معاشهم ودنياهم وواقعهم ونهضتهم.
من حفظوا القرآن كاملاً في حياة الرسول الكريم أربعةٌ فقط هم: أُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، بحسب حديث أنس بن مالك في البخاري، وحفظ بعضه كثير من الصحابة ولم يكملوه، وأكمله بعضهم بعد انقضاء عصر النبوة ممن يعرفون بـ «القرّاء»، وقد انشغل بعض كبار الصحابة بمناصبهم «السياسية» و«الاقتصادية» و«العسكرية» عن إتمام حفظ القرآن خدمةً للإسلام وللمسلمين.
إن «التضخم» الذي جرى في العقود الأخيرة في عدد «مدارس التحفيظ» وعدد المتخصصين في العلوم الشرعية أخرج أعداداً هائلة لا تحتاجها المجتمعات ولا الدول، وقد أصبح كثيرٌ منهم نهب البطالة أو برسم التجنيد والتوظيف من قبل «الجماعات» المتطرفة و«التنظيمات» الإرهابية تفتيشاً عن دورٍ وبحثاً عن أثرٍ، ومن هنا فإن مراجعة كبرى وشاملة يجب أن تشمل ذلك كله في مدارس التعليم وكلياته وجامعاته تعيد هيكلتها وتصوغ أهدافها وتتحكم في حجم ونوعية مخرجاتها.
في كل بلدٍ مسلمٍ ثمة فقهاء نجوا من شراك تلك المنظومة وقدّموا «فقهاً» دقيقاً و«فتاوى» ميسّرة وعالجوا مشكلات الناس وكان لهم أثرٌ طيبٌ في المجتمعات، ولكنهم كانوا قلةً اعتمدت على مهاراتٍ فرديةٍ وقيمٍ شخصيةٍ وكانوا محاربين من التيار الأكبر الذي صنعته «جماعات الإسلام السياسي» على عينها.
من المطلوب اليوم أن تتحول تلك القلة إلى كثرةٍ داخل «صناعة النخب الدينية» الجديدة، وأن تصنع بعناية وتنظيمٍ ورعايةٍ من الدولة والمجتمع حتى تتكامل مع خطط التنمية ورؤى المستقبل وتواكب النهضة المرجوّة وتزيد مساحة العلم والتنوير والإنجاز والإبداع في كافة المجالات.
أخيراً، ففي عالم شديد التنافس على العلم والتقدم والرقي فإن صناعة النخب الدينية بوعي ومعرفةٍ وشمولٍ مهمةٌ جلّى.