بقلم - إنعام كجه جي
في كتابها الجميل الصادر عن دار «الشروق»، تقوم سامية محرز بما تسميه «زيارة حميمية تأخرت جداً» للشاعر والمترجم إبراهيم ناجي. وناجي هو صاحب «الأطلال». القصيدة التي غنتها أم كلثوم. ومحرز هي أستاذة الأدب العربي في الجامعة الأميركية في القاهرة. وهي حفيدة إبراهيم ناجي. حاولت في كتابها أن تقدم جدها إلى القارئ كما لم يعرفه من قبل، من داخل بيته وأسرته. رجل فذ متعدد الاهتمامات. كان من الظلم أن يُسجن في شهرة أغنية واحدة، مهما بلغت روعتها.
بين الفصول حكايات كثيرة تستوقف القارئ، أدبية وعاطفية. منها فصل مستفيض عن ترجمة إبراهيم ناجي لمقطوعات شكسبير. تلك التي تُسمى «السوناتات».
وقبل أيام احتفل العالم بيوم المترجم. الجندي المجهول الذي يمكنه أن يكون مؤلفاً ثانياً للنص أو قاتلاً له. فما هي تلك المقطوعات الشكسبيرية التي تنافس في ترجمتها، إلى جانب ناجي، أكثر من أديب عربي بينهم الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، والسوري كمال أبو ديب، والمصريان بدر توفيق ومحمد عناني، والعراقي عبد الواحد لؤلؤة ومواطنه سركون بولص؟ كيف اجتهدوا في ترجمة المصطلح؟
«السوناتا» كلمة لاتينية الأصل، مشتقة من الصوت، وتعني: «ما يُسمَع أو ما يُعزَف ويُغنّى». وهي قطعة مكتوبة لآلة موسيقية.
وفي كتاب سامية محرز تطلق عليها اسم «أغنيات»، مع اعترافها بأن الجدل مستمر حول آليات ترجمة المقاطع الشعرية وحول عناوين المترجمين العرب. فهي تارة أغنيات وتارة أهازيج أو الاكتفاء بالحفاظ على الأصل: سوناتات.
هل هناك ترجمة عربية وضعت اليد على ما قصده شكسبير، إنما بلغة الضاد؟ يمكنني أن أتخيل الحيرة التي يقع فيها المترجم وهو يطارد معنى شارداً؛ حيص بيص وحيرة لا تخلو من متعة.
سألت أستاذة الأدب المقارن الصديقة فريال غزول، فكتبت لي أنها وقعت على استخدام للمصطلح بالعربية وهي تراجع بعض الأوراق المتراكمة عندها. فقد عثرت على صورة لأطروحة الدكتورة لطيفة الزيات عن ترجمة الأدب الإنجليزي إلى العربية. ترجمت الزيات السوناتا بالقصيدة القصيرة. ترجمة لا تُشفي الغليل.
هناك أيضاً حديث للباحثة الجزائرية عائشة خلاف، مؤلفة كتاب «فلسفة الموسيقى»، تقول فيه إن الغرب قضى أربعة قرون في ترجمة كل الإرث العلمي والمعرفي العربي الإسلامي، من دون أن يصنع أشكالاً فنية موسيقية تضاهي الأشكال العربية كالنّوبة، المقام، الأدوار، الموشّح إلا في مطلع القرن الثامن عشر الميلادي. وهذا الشكل هو ما يعرف بصيغة السوناتا.
نكتفي أم نزيد؟ كنت أتحدث مع الأديب والمؤرخ والمترجم العراقي الراحل مير بصري (1911 ـ 2006)، في دارته قرب لندن، حين سمعت ما أرضاني. كان بصري ينظم الشعر في موضوعات شتى، حتى أنه كتب ملحمة حول قراصنة البحار «الفايكينغ».
تسأله عن سبب اهتمامه بهم، فيقول إن الشاعر غير مسؤول عن وحيه.
وفي مطلع شبابه راح يكتب «السوناتات». أبيات مختلفة متنوعة القوافي. ثم في شطحة من شطحات الإبداع قرر أن يترجم المصطلح إلى العربية، واستقر رأيه على لفظة «إرنانة»، نسبة إلى الرنين. وهو قد استند إلى أن اللفظة اللاتينية مشتقة من الصوت. حسناً يا سيدي، ما جمع الإرنانة؟ أجاب باسماً: أرانين. كان سعيداً بترجمته حد أنه راح وعرضها على صديقه مصطفى جواد، العلّامة اللغوي صاحب «قل ولا تقل». استحسنها جواد وكان رأيه أنها تؤدي المعنى المقصود. بعد ذلك راح بصري يكتب الأرانين وينشرها في جريدة «العراق» لرزوق غنام الذي استقبلها بحفاوة تليق بها. وكنا في ثلاثينات القرن الماضي.