بقلم -فؤاد مطر
هنالك ظاهرتان لافتتان في المشهد السياسي الراهن، وتشكلان لمن يحكمون راهناً أو يحلمون بالسلطة لاحقاً. الظاهرة الأُولى متصلة بعهد الرئيس ميشال عون، ولم تك معالمها بهذه الحدة في عهود العشرة الذين سبقوه، كما في العهديْن اللذين قُضي عليهما تفجيراً، منذ أن أديا القسم، وهما الرئيسان رينيه معوض، والرئيس بشير الجميّل.
في عهود العشرة السابقين، بدءاً من الرئيس بشارة الخوري، فالذين خلفوه (كميل شمعون، والجنرال فؤاد شهاب، وشارل حلو، وسليمان فرنجية، وأمين الجميل، وإلياس سركيس، وإلياس الهراوي، والجنرال إميل لحود، والجنرال ميشال سليمان) لم يحدث أن رئيس البلاد بات موضع نقد وسخرية من جانب الناس، كما الذي حدث مع الرئيس الجنرال عون.
في تلك العهود كانت عبارات النقد لهذا الرئيس أو ذاك بالغة القساوة؛ إلا أن المواطنين كانوا عموماً في منأى عن رمي الرئيس بالنقد. وهذا لا يعني أن أحاديث مجالس الناس لم تشهد من النقد لأهل السلطة من أعلاها إلى سفحها اللاذع من العبارات، إنما ضمن أصول التعبير واحترام ما يتعلق بالخصوصيات. وحيث إن وسائل الإعلام كانت الصحف؛ إضافة إلى محطة الإذاعة، ثم لاحقاً محطة التلفزيون، وكلتاهما رسميتان، فإن تعميم المواقف يخضع إلى ما لا يتخطى الحدود والأصول واحترام المقامات.
في عهد الرئيس ميشال عون، حدث ما لم يحدث من جانب الناس، وبالذات تلك الأطياف المكتوية بتداعيات الإخفاقات. وحيث إن وسائل التواصل الإلكتروني متوفرة عموماً لدى الجميع، ونادراً ما تجد مواطناً -أو مواطنة- لا يملك «الموبايل»، هذا إلى جانب المستحدثات، من مواقع تتيح لأصحابها بث الكلام على نحو ما يريدون من دون التوقف عند أصول التخاطب، فإن ما بدأ يقال عن العهد رئيساً وحاشيات شكَّل ظاهرة عزز بشاعتها ما كان يُكتب على جدران المباني في المنطقة التجارية من العاصمة التي تم استحداثها خلال ست سنوات حريرية، وبدا الاستحداث العصري وكأنما هذه المنطقة توأم أزهى المناطق التجارية في لندن وباريس ونيويورك والرياض ودبي.
في بداية الأمر، قيل إن هذه الكتابات التي تنضح إهانة لرئيس البلاد ولمَن حوله هي من فعل غلاة الثوريين والشيوعيين، إلا أن ما كان يقال ويُبث صوراً ورسوماً وأغاني مركّبة وأشعاراً خلال رسائل التواصل الاجتماعي، كان يعكس انطباعاً بأن البغضاء تجاه رئيس البلاد لا تقتصر على قلة، وإنما تشمل حتى أولئك المندرجين في بند التحزب لرئيس البلاد، وهذا عائد إلى ضيق العيش؛ علاوة على الضيق من التحالفات السياسية، وما يتسبب فيه العهد من أذى للبنان المقيم وللبنان المغترب في الدول العربية، من تأثير على حياته العملية ومحيطه الاجتماعي.
على الرغم من ذلك، كانت ظاهرة الكلام عن العهد وعن الرئيس والحاشيات على أنواعها، لا تلقى وقفة تأمل من جانب الرئيس. بطبيعة الحال ليس لأنه ديمقراطي ويحترم الرأي لدى الآخر أو الآخرين؛ علماً بأنه كعسكري ليس كذلك من حيث المبدأ، كما لم يكن كذلك وهو رئيس حزب؛ بدليل أنه أورثه تعييناً لمن اصطفاه، وبما يعني أنه لم يترك الأمر في عهدة عملية انتخاب ديمقراطي لا تتأثر بسلطته المستجدة كرئيس للجمهورية. وأما لماذا لم تحدث وقفة التأمل المشار إليها، فلأن وقائع ما كان السبب في الكلام المسيء في حق الرئيس شاهدة على ما أحدثه العهد، وكيف أن الدولة تفقد مقوماتها، إضافة إلى أن أساسات خصوصية الوطن بدأت تهتز. وإزاء ذلك ليس أمامه إلا الانتفاض على الذات وعلى التحالفات وعلى الحاشية وعلى الذين من حوله، وإعادة النظر في حظوة الأقربين، والظهور بما بقي من مدة العهد بمظهر المصلح. لكنه لم يفعل، وربما لا يريد، وبقي أسير رئاسة باتت قفصاً فقدَ بريق أهمية مَن فيه ولمعان ذهبه.
ربما تحدُث صحوة مفاجئة، ويقرر الرئيس عون افتعال مناسبة يُلقي فيها خطبة وداع، يعتذر في بعض عباراتها عن ظلم وتظليم ألحقه عهده بالشعب اللبناني، وبالأطراف العربية التي أسيء لها في سنوات رئاسته. وإن هو فعل ذلك، فسيلقى التفهم الدولي والعربي كما الثناء، ومن الشعب اللبناني الصفح شبه الجميل.
تلك إضاءة عابرة على الظاهرة الأولى؛ لكن الظاهرة العونية دُونت في تاريخ الأحوال السياسية والحزبية كأكثر التحالفات غرابة، والمتمثلة بتحالف أكثرية تمثل الشيعة مع تمثيل لبعض الطائفة المارونية. ووجه الغرابة أن الحليف الأول (حزب الله) مقاوم ومسلح، والثاني (التيار الوطني الحر) غير مؤمن بالمقاومة ولا سلاح لديه. ولكن حبات عقد هذا التحالف إلى انفراط وارد الاحتمال، لمجرد انصراف الجنرال ميشال عون.
أما الظاهرة الثانية، فتتمثل بالنصح الأسبوعي وأحياناً في مناسبات، من جانب امرأة شاءت الأقدار أن تكون ملكة مملكة متعددة الدول، أي على نحو ما هو عليه مجلس التعاون الخليجي، وهي في بداية سن الشباب فتاة في السادسة والعشرين ورثت عرش والدها من دون أن تتوقع ذلك؛ ولكنها الأقدار.
وطوال سنوات تاجيتها السبعين زوجة وأماً، عاشت حريصة على أن تكون ملكة الشعب بكل أطيافه وليست ملكة عائلتها، فوضعت كل أمير أو أميرة ضمن حدود، تمارس على كل منهم من النصح ومن التحذير ومن الإجراءات ما يبقي التاج والرأس الذي عليه هذا التاج في مدار احترام الشعب. وفي السياق نفسه كان التواضع من شمائلها الكثيرة، كما كانت ابتسامتها عند مناسبة أو خلال زيارة تبعث في نفوس الناس -وبالذات في أزمان الأزمات، وما أكثرها- ارتياحاً ما بعده ارتياح. كان الصدق حليفها، وبشكل خاص عند الحزن على رحيل رفيق عمرها الأمير فيليب.
باتت إليزابيث الثانية الأم الفخرية لعشرات الألوف من الأحفاد المزدوجي الجنسية، من العربي إلى الباكستاني إلى الهندي إلى الأفريقي. هؤلاء وعلى مدى سبعين سنة إليزابيثية، ولدوا في بريطانيا التي احتضنت الأجداد، فالآباء وجدوا فيها ما لم يجدوه في دولهم، وهؤلاء اكتسبوا الجنسية وصدحوا مع رفاقهم الإنجليز في مدارس بريطانية النشيد الوطني، وقالوا كما أهاليهم بكل عفوية وصدق: «حفظ الله الملكة». ولا بد من أن إليزابيث الثانية كانت تشعر بذلك، فلطالما أوصت أن من دخل بيت المملكة المتحدة -ونقصد بذلك بيت إليزابيث الثانية ابنة جورج السادس الذي تُوفي في سن مبكرة- يكون آمناً ومستقراً، ما دام يحترم الأصول والواجبات، بدءاً بالأمن فالضريبة، شأنه في ذلك شأن البريطاني.
ولو أعطى المرء بعض التأمل لخريطة المجتمع البريطاني على مدى السنوات الإليزابيثية السبعين، لرأى كم بلغ مدى حصول جيل أبناء وأحفاد من سائر أقطار العالم الثالث على طمأنينة مغيَّبة في بلاد الأجداد، واستقرار لا يحققه الذين يترأسون أو يتم ترئيسهم وفي معزل عن الإرادة الشعبية، ولوجد التفسير لهذا الحزن العفوي على رحيل إليزابيث الثانية.
وعندما تجد سيدات عربيات ومسلمات يسارعن عند إعلان نبأ الرحيل إلى قراءة سورة الفاتحة على روح الملكة التي حققت لهنَّ ولأبنائهنَّ وبناتهنَّ ولكوكبة من الأحفاد ما لم يتحقق لهم في بلدانهم الأصلية، فإن هذا يعكس عمق الظاهرة الثانية التي أشرنا إليها بداية مقالنا هذا مقارنة بالظاهرة الأولى؛ حيث أطياف الشعب في لبنان حتى البعض المستتر في الإفصاح عما يجول في خاطره، تحصي بالدقائق المدة المتبقية لرحيل رئيس وعدهم بالجهنم، وقد كان حريصاً طوال السنوات الست العجاف على تفعيل هذا الوعد؛ تماماً كما حرص جيمس بيكر وزير خارجية أميركا بوش الأب، على وعده طارق عزيز وبرزان التكريتي معاً، خلال جلسة محادثات جرت في جنيف، بأن أميركا البوشية يمكنها أن تعيد العراق إلى العصر الحجري. وعملياً فإن بعض ملامح الحال الجهنمية في لبنان تبدو توأم ملامح الحال الحجرية في العراق.
حزن دفين بمستويات دولية على ملكة بريطانيا التي كان التحسر عليها كما لو أنها ليست في السادسة والتسعين، ولم تحمل التاج بكل اعتزاز يليق بها وتليق به طوال سبعين سنة! وهذا حزن عفوي على مَن هم من الصالحين والمصلحين. واستعجال شعبي ما بعده استعجال لانصراف الرئيس في لبنان؛ لأنه انشغل طوال ست سنوات بالحاشية، ونشر الحذر العربي والدولي والفاتيكاني من لبنان، نقيض ما عايشناه في سنوات ملكة بريطانيا التي اعتبرت أفراد العائلة جزءاً من المجتمع، ينطبق عليهم إصلاحاً وتأديباً ما ينطبق على سائر الناس. وبذلك أرضت الشعب بعد ربها. ورحلت بينما أمثولاتها على الصعيد البريطاني والدولي تأخذ مكانها في التاريخ.
ورحمة الله على الملك عبد العزيز، بادئ كتابة الأمثولات في العالم العربي، والتي كان الحرص على الشعب والعدل والغوث أبرز عناوينها، وبالذات عنوان اليوم الوطني للمملكة الذي تحل ذكراه ا92 بعد أيام، والتي يحتفل بها الشعب السعودي المحظوظ، بقيادة تستلهم تلك الأمثولات، ومعه شعوب عربية وإسلامية هدَّأت من روعها في كوارث ألمت بدولها، من خلال إغاثات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي ينام على خطة برسم الاستحداث، ويصحو على خطة قاربت الإنجاز. والله المعين والهادي.