بقلم -فؤاد مطر
من منطلق حُسْن التربية الدينية في المجتمع الفلسطيني العربي المسلم والمسيحي على حد سواء، افترضْنا أن الإسرائيليين، حكومةً قبل الرعايا، سيتعاملون مع الواقعة المؤلمة التي أصابت الضمير الإنساني بندبة لا ندري متى شفاؤه منها والمتمثلة باغتيال الإعلامية الفلسطينية الحاضرة في ذاكرة متابعي التطورات في الأراضي الفلسطينية المحتلة من خلال فضائية «الجزيرة» وكيف أن معالجة شيرين أبو عاقلة للتطورات كانت في استمرار في رحاب الإعلام المتزن الذي يروم المعرفة والحقيقة. وهي في ذلك لها مكانتها وتقدير المتابعين لإطلالاتها بمثل التقدير من النسيج نفسه لخمسة إعلاميين فقدناهم قبل أسابيع بعدما لم يصل صمودهم أمام المرض الذي لا يرحم إلى شاطئ التعافي وهم الإعلامي السعودي محمد أحمد الشدي، و«النهاري» رياض نجيب الريس الناشر بعقلية دور النشر البريطانية، وعبد الكريم أبو النصر «النهاري» الآخر في السبعينات عبوراً إلى «الشركة السعودية للأبحاث والإعلام» ناشرة «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» ومجلة «سيدتي» ومجلة «الرجل»، وصلاح منتصر الذي لطالما كان عطاؤه في صحيفة «الأهرام» ثرياً من حيث البراعة في ترويض ما خفيَ من الوقائع المحجوبة لدواعٍ موضوعية وتقديمها لقارئ الصحيفة التي تزداد عراقة ومن دون أن يتسبب في أي خدوش معنوية لمن رحلوا من أهل الحكم بحُقبه الثلاث الناصرية والساداتية والمباركية... وكذلك لمن يواصلون الدور السياسي في المحروسة مصر.
بعد رحيل رفيقَي سنوات «النهار» رياض الريس وعبد الكريم أبو النصر، ثم صلاح منتصر الزميل والصديق على مدى علاقة عقديْن ربطتني «الأهرام»، يباغتني كما كوكبة من «النهاريين» المخضرمين وكذلك الذين واصلوا من بعد اغترابنا الأوروبي، نشراً وتأليفاً، الحفاظ على ما يتيسر الحفاظ عليه من بريق السُّلطة الرابعة في الوطن الصابر على الاجتياحات، رحيل الزميل والصديق راجح الخوري أحد الذين تحتضنهم صحيفة العرب الدولية «الشرق الأوسط» يواصل من خلالها إلى جانب مقالاته «النهارية» تفسير ألغاز الصراعات السياسية اللبنانية للأشقاء العرب وللبناني البعيد عن الوطن من واشنطن إلى القدس حيث عبث بعض قليلي التربية من الجيل المعاصر لجيل احتلال فلسطين العربية المسلمة والمسيحية، بمناسبة تستوجب الاحترام إلى درجة الصلاة، ونعني بالمناسبة جنازة زميلتنا الفضائية شيرين أبو عاقلة حيث حاول البعض من أولئك العابثين الإساءة إلى التابوت المسجى فيه جثمان إنسانة كانت في تغطيتها للأحداث من خلال واجبها الإعلامي حريصة على التركيز على ما سبق وقررته الدول العربية وهو السلام العادل الذي بموجب اعتماد المبادرة العربية يعيش الجميع في خيمة تمتد من البحر إلى النهر ومن الجليل إلى غزة متجاورين متسالمين وبالتالي سالمين، فلا تتطور الأمور إلى أن تحدُث ذات زمن هجرة معاكسة لليهود من فلسطين إلى الديار التي أتوا منها، تتلوها عودة الفلسطينيين من ملاذات اللجوء الذي دخل عقده السابع إلى رحاب وطنٍ الآباء ورثوه من الأجداد. وتبدأ عند ذلك حقبة جديدة من الصراع.
وما هو أكثر أسفاً من محاولة عبث البعض وعلى مرأى الأمن الإسرائيلي، أن رموز السُّلطة في إسرائيل لم يكونوا عند حُسْن التوقع بأن حادثة اغتيال شيرين أبو عاقلة تستوجب وقفة اعتذار من قمة السلطة الإسرائيلية من نوع اعتذار وتقديم مواساة الرئيس جو بايدن ثم بعد ذلك المحاكمة والإدانة لرجل الشرطة الأميركي الأبيض الذي أزهق روح أميركي أسود. لكنّ تلك السُّلطة المتعالية لم تمارس الأصول ولم تتوجه بزيارة ذوي الفقيدة لتعتذر. وغاب عن رموز الحكم الإسرائيلي كيف أن الجانب الفلسطيني وعلى مستوى رئيس السلطة الوطنية وقبل ذلك الرئيس المصري الراحل حسني مبارك مارسا أرقى أصول تقديم التعازي في مناسبات إسرائيلية تستوجب التعزية بها، إحداها التعزية بإسحق رابين.
كذلك ما هو مدعاة للحزن بعد رحيل شيرين أنه كان هنالك التوقع بأن يؤدي الرئيس جو بايدن وقفة عزاء بمثل وقفته لاحتواء فاجعة المدرسة التي ستبقى ندبة في جبين مجتمع أهل القرار الأميركي والتي فيها بعض أوجه التشابه بالندوب التي ارتبطت بالدور الحربي الأميركي في العراق وكيف أن ألوف الأطفال بأعمار أطفال وفتية المدرسة الأميركية المنكوبة قضوا تحت ملجأ العامرية الذي احتواهم مع بعض الآباء والأمهات والجدات والأجداد بأمل النجاة من القصف وهم في بيوتهم أو مدارسهم أو خلال وجودهم في الملاعب. ومثلما أن الرئيس بوش الأب لم يعتذر عن فعله الصاروخي الذي أحدث حالات من التفحم في ملجأ العامرية، فإن الرئيس بايدن لم يبادر إلى وقفة أسى عميق تجاه ما حدث لمواطنته الفلسطينية - الأميركية شيرين أبو عاقلة التي حدث اغتيالها قريب الشبه من اغتيال الرئيس جون كينيدي، مكتفياً بما عبَّر عنه بعض المسؤولين في إدارته ومنهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي عزّى في سياق تصريح طالب فيه بضرورة إجراء تحقيق فوري واصفاً شيرين بأنها «محترمة جداً في العالم أجمع».
بقدر الحزن الوجداني على زملاء تسببت أحوال الأمة وما تعيشه من صراعات حزبية وحالات من الفساد المستشري في عدد كبير من أقطار الأمة وطغيان سلاح الباطل إسرائيلياً - دولياً على فلسطين، وإيرانياً - تركياً على سوريا والعراق وليبيا ولبنان، في ضغوط نفسية ثم صحية عجّلت برحيلهم، العابالقدْر نفسه يعتز المرء بالتكريم الذي لقيته شيرين أبو عاقلة من بني قومها ومن أصفياء الضمير فيلم، فضلاً على أنها جسّدت باستشهادها جوهر التكوين المسلم - المسيحي للشعب الفلسطيني، إضافةً إلى أن جنازتها ورغم بشاعة التعامل من جانب عناصر إسرائيلية معبأة حقداً وعنصرية مع التابوت المحتضَن بالعَلَم الفلسطيني وبأكوام باقات الورد ذكّرتْنا من حيث عفوية التشييع ومشاعر المشيعين بجنازة الرئيس رفيق الحريري في بيروت وجنازة الرئيس ياسر عرفات في رام الله وقبل ذلك بجنازة الفريق عبد المنعم رياض في القاهرة، ما يعني أن للبطولة النقية وصفاء الجوهر الوطني مكانهما في قلوب الناس. ولعل الصلاة على الجثمان المسجى في التابوت الذي يفوح منه شذى نسائم المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وكل تربة إيمانية في فلسطين، الحرم الثالث، كانت التأكيد لذلك المعنى.
تَطمئن القلوب في حال اكتمل رد الفعل الأميركي بحيث يعوّض الرئيس بايدن عن بساطة رد فعله إزاء الاغتيال عن سابق كراهية عنصرية من جانب تعبئة العداوة المفرطة في التربية العسكرية الإسرائيلية ضد أي صوت فلسطيني متوازن، والمضي إلى لحظة الحقيقة كاملة في التحقيق الذي أشار إليه الوزير بلينكن، وعدم الاسترخاء في متابعة وإصرار السُّلطة الفلسطينية على حضور وشراكة دولية في التحقيق الذي نتطلع كما الجموع الفلسطينية إلى أن يصل إلى لحظته العادلة من دون مداهنات، خصوصاً أن الضحية شيرين رمز لفلسطين العربية - المسيحية - اليهودية - مضافة إلى ذلك جنسيتها الثانية (الأميركية).
لم تكن شيرين مثل ليلى خالد في مهمة خطف طائرة وهي تحلق في الفضاء آملةً من العملية، غير المستحبة في نظرنا، المكلَّفة بها، تنبيه العالم إلى قضية وطنها من خلال هذه العملية التي قامت بها بتأثير العقيدة الثورية الحديدية التي تقمصتها وأقنعها منظّرو العمل الثوري بتنفيذها، وإنما كانت شيرين من نسيج الثورية الناعمة، بيدها الميكروفون وعيون متابعيها شاخصة كما آذانهم لسماع تقاريرها الهادئة الهادفة كخط عام إلى الحل الذي يؤكد خصوصية فلسطين مسيحية - إسلامية - يهودية بطيٍّ متأنٍّ لوعد بلفور ورؤية أميركية منطقية تستهدف تحويل كثرة التصريحات الأميركية عن الحل بصيغة الدولتيْن إلى تنفيذ. ويا ليت نوبل للسلام تكون من حق شيرين أبو عاقلة إلى جانب «وسام القدس» الذي أرفق به الرئيس محمود عباس إكليل الورد على جثمانها المغطى بالعَلم الفلسطيني الذي تتفاقم كراهية الإسرائيلي لرؤيته مرفوعاً ومرفرفاً.
لعلنا في زمن لن يكون بعيداً نبدأ الكتابة عن فلسطين المبادرة العربية... فلسطين المسيحية - المسلمة - اليهودية... دولة الديانات السماوية الثلاث ذات الرعاية الأميركية كي لا يستأثر بها أحد. وهذا الأمل الواعد هو ما رسمت معالمه شيرين أبو عاقلة برحيلها الذي يبقيها حية في الوجدان الإنساني. والرحمة للزملاء الخمسة الذين ننتمي كما كوكبات من الذين يواصلون الكتابة والتحليل إلى الرؤية المتوازنة نفسها، والتي هي الأقرب إلى المنال من رؤية أهل النظام الإيراني الذي يخوض مع أهل النظام الإسرائيلي صولات وجولات من التهديدات وتصوير هذا التبارز كأن فلسطين مسألة حصراً بالنظامين اللذيْن وضعا المنطقة في مدار عدم الاستقرار. ويكفي تدليلاً على ذلك التأمل وبتجرد في أحوال العراق ولبنان وسوريا واليمن وغزة حيث للنظام الإيراني حضوره الفاعل وقواه الضاربة. والله السميع البصير والحَكَم العدل.