بقلم - مشعل السديري
حكي عن أبي عبد الله النميري أنه قال: كنت يوماً مع المأمون، فركب للصيد ومعه سرية من العسكر، فبينما هو سائر إذ لاحت له طريدة، فأطلق عنان جواده، فأشرف على نهر ماء من الفرات، فإذا هو بفتاة عربية ممشوقة القد، قاعدة النهد، كأنها القمر ليلة تمامه، وبيدها قربة قد ملأتها وحملتها على كتفها، وصعدت من حافة النهر، فانحل وكاؤها فصاحت برفيع صوتها: يا أبت أدرك فاها قد غلبني فوها لا طاقة لي بفيها، قال: فعجب المأمون من فصاحتها فرمت القربة من يدها، فقال لها المأمون: يا فتاة من أي العرب أنت؟ قالت: أنا من بني كلاب، قال: وما الذي حملك أن تكوني من الكلاب؟ قالت: والله لست من الكلاب وإنما أنا من قوم كرام غير لئام يقرون الضيف، ويضربون بالسيف، ثم سألته: يا فتى من أي الناس أنت؟، قال لها: أنا من مضر، فسألته: من أي مضر؟ قال: من أكرمها نسباً، وأعظمها حسباً، وخيرها أماً وأباً، وممن تهابه مضر كلها، قالت: أظنك من كنانة، قال: أنا من كنانة، فسألته: فمن أي كنانة؟ قال: من أكرمها مولداً وأشرفها محتداً وأطولها في المكرمات يداً، ممن تهابه كنانة وتخافه، فقالت: إذن أنت من قريش، قال: أنا من قريش، فسألته: من أي قريش؟ قال: من أجملها ذكراً وأعظمها فخراً، ممن تهابه قريش كلها وتخشاه، قالت: أنت والله من بني هاشم، قال: أنا من بني هاشم، ثم عاودت سؤاله: من أي هاشم، قال: من أعلاها منزلة، وأشرفها قبيلة، ممن تهابه هاشم وتخافه، فعند ذلك قبلت البنت الأرض، وقالت السلام عليك يا أمير المؤمنين، قال: فعجب المأمون وطرب طرباً عظيماً وقال: والله لأتزوجن بهذه الفتاة لأنها من أكبر الغنائم، وأنفذ خلف أبيها وخطبها منه، فتزوجها، وهي والدة ولده العباس - انتهى.
هذه البنت بفصاحتها ونباهتها وثقتها بنفسها، لا أقول إنها (ألقمت) المأمون حجراً، ولكنها بكل تأكيد تغلبت عليه (بالضربة القاضية) بمعلوماتها الغزيرة وأدبها الجم وأعصابها الفولاذية، ولتتأكدوا من ذلك إليكم سؤال المأمون لها عندما قال من أي العرب أنت؟!، فأجابته: أنا من بني كلاب، ويا ليته سكت وانطم، ولكنه سألها بسذاجة وكأنه يريد أن يخفف دمه عندما قال: وما الذي حملك أن تكوني من الكلاب؟!
فعاجلته بنت أبيها قائلة بفخر: والله لست من الكلاب، وإنما أنا من قوم كرام غير لئام.
المهم في النهاية جابت مناخيره بالأرض، عندما خطبها وتزوجها.