هل بات على الديمقراطيين حسم خيارهم القادم واختيار بديل للرئيس بايدن ليكمل سباق الانتخابات الرئاسية 2024، بعد أن وَقَرَ لدى غالبيّتهم إن لم يكن جميعهم، أن الرئيس بايدن أضحى المكافئ الموضوعيّ لفوز منافسه الجمهوري ترمب فوزًا ساحقًا؟
بعد الأخطاء الكارثيّة التي بدرت عن بايدن عشيّة المناظرة الأخيرة مع ترمب، كثرت مشاهد نسيان بايدن والتلفّظ بكلمات غير مفهومة، وأخرى تدلّل على أن الرجل بات قاب قوسين أو أدنى من إعلان عجزه ذهنيًّا، الأمر الذي يهدد حالة الأمن القوميّ الأميركيّ، فهذا ليس بالرئيس الموثوق في إيقاظه الثالثة فجرًا، لإخباره بأن روسيا أو الصين، وربّما إيران أو كوريا الشمالية، قد بدأت هجومًا واسعًا ضدّ أهداف أميركية حول العالم، أو باشرت قصفا صاروخيا نوويا مستهدفا الداخل الأميركيّ.
بايدن يصرّ حتّى كتابة هذه السطور على أنّه سيخوض السباق الرئاسي، وهذا ما أكّده لعدد من أعضاء الكونغرس من الغرفتَيْن الأعلى والأدنى، الشيوخ والنوّاب، عطفًا على تحدّثه بالأمر عينه لحكّام ولايات ديمقراطية قبل بضعة أيّام، مبديًا استياءَه من مطالبة بعضهم بتراجعه وإفساح المجال لجَوَاد ديمقراطيّ آخر.
يبدو المشهد مثيرًا وخطيرًا، وبخاصّة في ظلّ عدم رغبة الديمقراطيّين في تفعيل المادة 25 من الدستور الأميركيّ، تلك التي تمكّنهم من إزاحة بادين من البيت الأبيض بسبب حالته الذهنية، ولهذا فإنهم يبحثون وبسرعة فائقة عن طريقٍ يُقنعه بالعدول عن فكرة المُضِيّ قدمًا، ومن دون أن يجرحوا كرامته بالعزل، وهو ما لن يصب حكمًا في صالح فوز مرشَّح الحزب القادم بالرئاسة الصعبة في نوفمبر المقبل.
لم يعدْ سرًّا أنّ هناك نقاشات حادّة وجادّة تجري في صفوف قيادات الحزب لإيجاد البديل، وغالب الظنّ أنّ هناك اسمَيْن تحديدًا، يمكن لأحدهما أن يكون الجَوَاد الرابح للجمهوريّين.
البديل الأوّل يتمثل في نائب الرئيس كمالا هاريس، ورغم نفي الديمقراطيّين لها ظاهريًّا، إلا أنّ ما يتسرّب من واشنطن يقطع بأنهم على استعداد للاحتشاد من حولها، إذا تخلّى بايدن عمّا يراه البعض عنادًا، فيما يعتبره نفرٌ آخر نوعًا من أنواع الغطرسة التي يمكن أن تُكَبِّد الحزب غيابًا لأربع سنوات عن البيت الأبيض.
على أن علامة الاستفهام غير المعلنة ديمقراطيًّا: "هل كمالا هاريس يمكنها أن تهزم ترمب؟".
الشاهد أنها لا تتمتّع بأيّ كاريزما، ولم يسمع عنها أحدٌ قبل أن يختارها بايدن لمنصب النائب، وخلال السنوات الأربع لم يثبت ولو لحظة واحدة أنّها من نوع النوّاب الكبار، مثل آل غور مع بيل كلينتون، ولا ديك تشيني مع بوش الابن، رغم كوارثه، وحتى مايك بنس نائب ترمب كان نوعًا آخر من النوّاب المتميّزين، وهو ما ظهر نهار السادس من يناير 2021، خلال عمليّة التصويت على الرئيس الجديد في الكونغرس، يوم القارعة الأميركية الشهيرة.
لكن وفي ظل حالة الفوضى التي تكاد تضرب جنبات الديمقراطيّين، ربما يرى البعض أن هاريس لديها عدد من المميّزات، فهي ستكون الشخص الوحيد الذي يمكنه الاستفادة من الأموال التي جُمِعت بالفعل لمصلحة الحملة الانتخابيّة المشتركة بينها، كذلك ستتمكّن من الاستفادة من الجهاز الوطنيّ الذي أسّسته حملة بايدن – هاريس بالفعل، ممّا يجعلها الخليفة الطبيعيّ لبايدن إذا اختار التنحّي.
عطفًا على ذلك، فإنه سيكون متاحًا للأشخاص غير الراضين عن الاختيار بين بديلَيْن أحلاهما مُرّ، واحد فاقد للذاكرة، وآخر مدان بحكم جنائيّ، أن يعتبروا أنّه هناك الآن شخص آخر، نعم ربّما لم يكنْ هذا الشخص هو من أرادوه بالضبط، لكن الجميع يحب قصص التغلّب على التحدّيات والتعافي من الانتكاسات، وقد تكون قصة هاريس واحدة من هذه النوعيّة من القصص، رغم ضعف حضورها داخليًّا وخارجيًّا.
على أن هناك خيارًا آخر يشاغب أذهان الديمقراطيّين، وقد يكون خيارًا فاعلاً وقادرًا على تغيير أوضاع معركة انتخابات الرئاسة القادمة، ويتمثّل في ميشال أوباما، زوجة الرئيس الأسبق باراك أوباما.
طوال سنوات وجود بايدن في البيت الأبيض، اعتبر كثيرٌ من الأميركيّين أن ولايته ليست إلا فترة ثالثة لأوباما، وأنه هو المحرّك الرئيس للأحداث، ومعه زمرة اليسار الديمقراطيّ المتشدّد إلى حدّ التطرّف.
هل يمكن أن تكون ميشال منقذة الديمقراطيّين والقادرة على إخراج ترمب مرّة أخرى وإلى الأبد من المشهد السياسيّ الأميركي، كما تشتهي جماعة الإنتلجنسيا في حزبها؟
تكاد المقارنة بين ميشال أوباما وكمالا هاريس تصبّ في صالح الأولى دون الثانية، لا سيّما أنّها منذ أن سكنت البيت الأبيض عُرِفت بأنّها شخصيّة لطيفة ودود، لا تفارقها الابتسامة، تحب المزاح ولا تبخل بالمعانقة التي يُعَظِّمها الأميركيّون.
تبدو مؤهلات ميشال وكأنّها تدفعها في طريق المنصب الأرفع في البلاد، فهي محامية، أكاديمية، كاتبة، تخرّجت في كلية الحقوق بجامعة هارفارد، ومنها حصلت على درجة الدكتوراه عام 1988.
انخرطت ميشال في النشاط السياسيّ مبكرًا، كما عملت في مجال الاستشارات القانونية، وباتت اليوم من الشخصيّات النسائية المؤثّرة لا في الداخل الأميركي فحسب، بل على مستوى العالم أجمع.
بالإضافة إلى ما تقدّمَ، فإنّ ثوب ميشال غير ملطَّخ بأية فضائح سياسية، ما يجعلها وجهًا مقبولاً، وتبدو فرصتُها تاريخيّة كأول سيدة ملوّنة، تصالح أميركا مع نفسها بعد سنوات ثماني من القلاقل والاضطرابات.
هل لهذا "جاءت بعض استطلاعات الرأي لتقطع بأنها المرشّحة الديمقراطيّة الوحيدة القادرة على هزيمة ترمب؟
حدث ذلك بالفعل عبر استطلاع أجرتْه وكالة "رويترز/ أبسوس"، والتي توصّلت في نتائجها إلى أن "جميع المرشحين الديمقراطيّين الافتراضيّين الآخرين إمّا يقدّمون أداءً مشابهًا أو أسوأ من أداء بايدن ضدّ ترمب.
ولعله من المفارقات أنّ الحديث عن ترشّح كمالا هاريس لا يزعج ترمب وجماعة الحزب الجمهوري كثيرًا، إلا أنّه حين الأخذ بعين الاعتبار إمكانيّة ترشّح ميشال، فإن الحديث يختلف، لا سيما بعد أن حذَّر عددٌ من كبار قيادات الحزب من أن وجود ميشال أوباما في المواجهة يمكن أن يؤدّي إلى كارثة محتملة بالنسبة لدونالد ترمب.
غير أن هذا القول في حدّ ذاته قد يكون قراءة في المعكوس، بمعنى أن هناك من الجمهوريين من يرون أنّ ميشال هي الصنو والمرادف لزوجها، الرجل الذي تجرّأ على الأمل شفاهيًّا، ولم يترك إلا إرثًا من الرماد، بجانب توجّهات لليسار الديمقراطيّ تقود أميركا إلى حيث يكره المحافظون وأنصار اليمين، ما يعني أنها سوف تستدعي ليس فقط كافة أنصار الجمهوريّين، بل كذلك الملايين ربّما من الكتلة الصامتة، والذين يرون أنها ليست سوى خيار يساريّ اشتراكيّ، وأنها ستمضي في ذات الأفق الذي سار فيه أوباما كرئيس طوال ثماني سنوات.
من المؤكّد أنه بين كمالا هاريس وميشال أوباما، هناك أسماء لمرشّحين آخرين، من نوعية غافين نيوسوم، حاكم كاليفورنيا، والذي يمكن أن يقدم مع ميشال فريقًا انتخابيًّا مقبولاً ومعقولاً جدًّا، كرئيس ونائب، سيّما في ظلّ غياب اسم نائب لترمب حتى الساعة.
هل من خلاصة؟
الارتباك لا يعمّ الحزب الديمقراطي فحسب، ولا الجمهوري بدوره، إنّها الولايات المتحدة المتردّدة على حدّ وصف هنري كيسنجر، والسؤال: إلى متى؟