عن بوريل ونهاية الهيمنة الغربية

عن بوريل ونهاية الهيمنة الغربية

عن بوريل ونهاية الهيمنة الغربية

 صوت الإمارات -

عن بوريل ونهاية الهيمنة الغربية

بقلم - إميل أمين

درج المفوَّض السامي لشؤون السياسة الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، على إلقاء تصريحات مثيرة بين الفَيْنة والأخرى. وقد كان منها مؤخَّرًا رؤيته للقارة الأوروبية، "الحديقة والأحراش"، حيث وصف دول أوروبا بأنها أشبه ما تكون بحديقة غَنَّاء، وأن مَن خارجها يعيشون في الأحراش ويسعون للقفز من فوق الأسوار إلى داخل أوروبا.

يومها عَلَتْ أصوات أوروبية عدّة، أنكرت على الرجل هذه الفوقية الأوروبية، لا سِيَّما في ظلّ تراجُع مربَّعات النفوذ الأوروبية حول العالم، لا سِيَّما في ظلّ تعاظم الدور الآسيوي، عطفًا على الخلافات المستجَدَّة بين شاطئ الأطلسي، وبنوع أكثر خصوصية إذا قُدِّرَ للمرشح الجمهوري دونالد ترامب الوصول إلى سُدَّة الرئاسة الأميركية مرة جديدة في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.

مهما يكن من رؤية بوريل للحديقة والأحراش، ها هو يعود مرة جديدة قبل بضعة أيام للحديث عن عصر الهيمنة الغربية الذي وصل إلى نهايته، بحسب تعبيره.

رؤية بوريل التي تمثل مصارحة فَجَّة للأوروبيين والأميركيين على حدٍّ سواء، جاءت خلال مناقشة للتوتّرات الجيوسياسية الراهنة في العالم، لا سِيّما في ظل علاقات أوروبا مع دول الجنوب العالمي.

هذه المرة هناك الكثيرون الذين يتفقون مع بوريل، سيّما أنه يُقَرِّر واقعًا راهنًا، تمضي فيه المواجهة إلى حد المجابهة بين الغرب والآخرين، ما يجعل مستقبل أوروبا قاتمًا بالفعل.

يَعِنُّ لنا أن نتساءل مخلصين التساؤل والبحث عن جواب: "هل جاء تصريح بوريل هذا وعلى هامش الذكرى الثانية من قيام القيصر بوتين بمغامرته في أوكرانيا وعَجْز الغرب برُمَّته عن تنفيذ خطة احتواء كييف ضمن الناتو أول الأمر، وتحقيق تطلعات الناتو إلى الشرق من جهة أخرى؟".

لم يَعُدْ سرًّا أن الأوروبيين يشعرون بهَلَع بالغ من الصدام المحتمل مع موسكو، والذين قُدِّر لهم متابعة خطاب بوتين الأخير في الجمعية الفيدرالية الروسية نهارَ الخميس الفائت، عطفًا على خطة بوتين لتوزيع الأسلحة النووية في عموم روسيا الاتحادية، يدركون كيف أن سيد الكرملين قادر بالفعل على إبطال مفاعيل "القوة الخشنة" الغربية، من خلال التهديد بقوة أخرى موازية لها في المقدار، لكن مضادة لها في الاتجاه.

يُقِرُّ بوريل بأن القول بنهاية هيمنة الغرب على العالم قد وصلت إلى نهايتها، كان مفهومًا من الناحية النظرية، إلا أن الغربيين أنفسهم لم يستخلصوا دائمًا جميع الاستنتاجات العملية من هذا الواقع الجديد.

أن تجيء متأخرًا خيرٌ من ألّا تجيء أبدًا. وعليه، فإن بوريل يكاد يفتح بحديثه جرحًا حضاريًّا خطيرًا في الجسد الغربي، انطلاقًا وعلى حدِّ تعبيره من الوضع المتفاقم في أوروبا بسبب أوكرانيا؛ فقد انقاد الاتّحاد الأوروبي وراء العمّ سام، فيما كان له أن يلعب دور الوسيط للحفاظ على العلاقات بدون توتر بين كييف وموسكو، لا تحفيز الأولى على مشاغبة الثانية وصولاً إلى ميادين القتال.

يدرك بوريل تمام الإدراك أنه كان هناك حلم أوراسي كبير حلم به جيل الكبار من القادة الأوروبيين، لا سِيّما الزعيم الفرنسي شارل ديغول، وفيه كان يمكن للامتداد الجغرافي من الأطلسي غربًا إلى جبال الأورال شرقًا، أن يمثل عامل وحدة وتجميع.

غير أن مغامرات الأوروبيين المحدثين في العامَيْن الأخيرين، كتبت شهادة وفاة الحلم، ما جعل هواجس هجوم عسكري روسي تخيف الأوروبيين، حقيقة قائمة لا افتراضًا محتمَلاً.

بوريل توقف كذلك عند أزمات الشرق الأوسط وفي القلب منها بلا شكٍّ أزمة غزة، وإشكاليات أخرى عديدة سبقتها طوال العقدَيْن الماضيين، وجميعها باعترافه دعت لاتّهام أوروبا بممارسة "معايير مزدوجة"، انتقصت من مصداقِيّتها ومن موثوقِيّتها لدى الجيران الذين جمعهم بهم "البحر الكبير"، أي البحر الأبيض المتوسط والوصف للعرب الأوائل الذين عرفوا طريقهم لما وراءه.

يدعو بوريل إلى اتخاذ إجراءات مضادة ليس بالكلمات فقط، لكن بالأفعال أيضًا.

هل يقصد بوريل هنا محاولة استرجاع زمن الهيمنة الغربية عبر دروب العدالة، والخلاص من النماذج الأبوكريفية التي درجت عليها حضانات غربية طوال خمسة قرون خلت، استغَلَّتْ فيها المراكز الغربية، أوروبيةً كانت أو أميركيةً، بقية التخوم الأممية، لا سيَّما في مناطق الجنوب، حيث القارة الإفريقية، وفي أميركا اللاتينية التي ما انفكت تعيش حالة من حالات الاستعمار الغربي غير المباشر؟ أم أن الانحدار الحضاري قَدَر مقدور في زمن منظور؟

أفضل من قَدَّمَ جوابًا عن علامة الاستفهام المتقدمة، الفيلسوف الألماني، أوسفالد شبنجلر (1880-1936)، والذي اعتبر أن تاريح الحضارات الإنسانية ليس خطًّا مستقيمًا إلى التقدم، بل هو دورات متعاقبة من النموّ والانحلال، وأن كلَّ حضارة هي أشبه بإنسان يولد وينمو وينضج ثم يشيخ ويموت.

أما أرنولد توينبي، المؤرخ الإنجليزي الشهير (1889-1975)، فقد آمن بدوره بأن التاريخ "دورات حلزونية" تولَد وتنمو، ثم تشيخ فتموت، لكنه كان يرى أن القوى الحاضرة قد استفادت من خبرات التجارب السابقة وستعرف كيف تتجاوز المَطَبَّات التي أمامها.

ولعل قراءةً مُعمَّقة لأفكار شبنجلر وتوينبي، وقبلهما إدوار غيبون، تخبرنا بأنه لا يَحِقُّ لنا ونحن نكتب عن سفر التاريخ الماضي، أو حين ندوِّن ملاحظاتنا عن الحاضر تمهيدًا لإعداد تاريخ اليوم مستقبلاً أن نتجاهل الأبعاد الحضارية، والتي نعني بها الأبعاد المرتبطة بالموروث الثقافي والأخلاقي والحكمة والفضيلة التي طالما هي تلعب دورًا في تحديد نزعات الشعوب وقاداتها.

خُذْ إليك، على سبيل المثال لا الحصر، ما يراه نَفَرٌ من المؤرّخين عن أسباب انهيار الدولة العباسية، والتي لا يشكل الغزو التتاري الجزء الأكبر منها وإن كان هو "السبب المباشر"، بل إنها تعود إلى إهمال الحكام واجباتهم وانغماسهم في مَلَذَّاتهم وترفهم، فَعَمَّت الفوضى واختلط الحق بالباطل وانهار ميزان العدالة.

أما الحضارة اليمنية فقد تدهورت أحوالها بسبب انسلاخ أهلها عن سماتهم الذاتية العربية وإتاحتهم المجال للخرافات والأساطير والتعصب الطائفي ليُسَمِّمَ حياتهم، عطفًا على فشلهم في استصلاح أرضهم لأنهم تجاهلوا نواميس الطبيعة واتَّكلوا على ما أقنعوا أنفسهم به من خزعبلات.

هل ستتجاوز الحضارة الغربية كَبَواتها في حاضرات أيامنا ما يعطي دفقًا جديدًا للحضارة الغربية، أي أنها ستخضع لقوانين الحضارات، صعودًا وهبوطًا، ما يعني حتميّة تحقُّق رؤية جوزيب بوريل؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن بوريل ونهاية الهيمنة الغربية عن بوريل ونهاية الهيمنة الغربية



GMT 05:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

يتفقد أعلى القمم

GMT 05:44 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا و«تكويعة» أم كلثوم

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

تحولات البعث السوري بين 1963 و2024

GMT 05:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الهروب من سؤال المصير

GMT 05:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الهروب من سؤال المصير

GMT 05:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا والنظام العربي المقبل

GMT 05:41 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 05:41 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

2024... سنة كسر عظم المقاومة والممانعة

GMT 13:56 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أجواء حماسية وجيدة خلال هذا الشهر

GMT 09:22 2020 الأربعاء ,01 تموز / يوليو

أجواء إيجابية لطرح مشاريع تطوير قدراتك العملية

GMT 13:28 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أجواء حذرة خلال هذا الشهر

GMT 21:40 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

يتحدث هذا اليوم عن بداية جديدة في حياتك المهنية

GMT 08:30 2019 الجمعة ,18 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة تحضير بان كيك دايت شوفان سهل ومفيد

GMT 14:47 2019 الأربعاء ,19 حزيران / يونيو

فيفي عبده تردّ على منتقدي شكل حواجبها مع رامز جلال

GMT 18:22 2015 السبت ,06 حزيران / يونيو

صدور "حكومة الوفد الأخيرة 1950-1952" لنجوى إسماعيل

GMT 08:05 2015 السبت ,12 كانون الأول / ديسمبر

فلسطين ومفارقات حقوق الإنسان

GMT 08:09 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

"بيجو" تحذر من انها لن تتراجع عن اغلاق مصنع لها

GMT 15:07 2017 الإثنين ,16 تشرين الأول / أكتوبر

أردنية تُنشئ مجموعة إلكترونية لتشجيع المرأة على النجاح

GMT 19:43 2020 الجمعة ,11 أيلول / سبتمبر

زلزال بقوة 4.3 درجة يضرب جزر الكوريل في شرق روسيا

GMT 07:51 2019 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنيه المصري يرتفع أمام الدولار بنسبة 10.3% منذ بداية 2019

GMT 14:09 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

إليسا تعود لإحياء الحفلات في مصر وتلتقي بجمهورها

GMT 10:49 2019 الثلاثاء ,08 تشرين الأول / أكتوبر

"تويوتا" تعدل أحدث نموذج من سيارتها التي يعشقها الملايين

GMT 06:15 2019 الأحد ,14 إبريل / نيسان

هاني سلامة يفقد الذاكرة في مُسلسله الجديد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates