بيرنز بين صن تزو وميكافيلي

بيرنز بين صن تزو وميكافيلي

بيرنز بين صن تزو وميكافيلي

 صوت الإمارات -

بيرنز بين صن تزو وميكافيلي

بقلم:إميل أمين

جرى العرف ألا يتكلم مديرو الاستخبارات إلا نادراً، ما يجعلنا نتساءل عن السر الذي دفع السيد وليام بيرنز، مدير الاستخبارات المركزية الأميركية، للحديث باستفاضة عن «فن التجسس وفن الحكم»، في الداخل الأميركي، وهل السبب الدفاع عن الوكالة التي وصفها الكاتب الأميركي تيم وانر بأنها «إرث من الرماد»، في كتابه الحائز جائزة بوليتزر؟

بدا السيد بيرنز في مقاله المطول في عدد مجلة «الفورين آفيرز»، نهاية يناير (كانون الثاني) المنصرم، كأنه يحاول تصحيح الصورة المغلوطة عن الوكالة الاستخباراتية الأشهر في عيون الأميركيين، خصوصاً بعد أن تشوهت من جراء الأخطاء العرضية التي شابت مسيرتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة، ومنافحاً بأن غالبية شعبه يجهل أعمالها البطولية، وما سمّاه نجاحاتها الكثيرة الهادئة والصامتة في كثير من الأحيان.

يكاد بيرنز يضعنا أمام استحقاقات مفهوم جديد ومغاير، طولاً وعرضاً، لعالم السرية والغموض الذي يغلف أعمال الاستخبارات في العالم برمته، «رفع السرية الاستراتيجية»، أي الكشف المتعمد عن بعض الأسرار من أجل إضعاف الخصوم وحشد الحلفاء... كيف يستقيم هذا الطرح الجديد؟ وهل هو محاولة لإغراق الخصوم في عالم المعلومات، وإصابتهم بفقدان القدرة على التمييز بين الغث والسمين؟ ثم، كيف يمكن أن يستقيم الأمر من دون تعريض مصادر أو أساليب جمع المعلومات الاستخباراتية للخطر؟

يبدو هذا المفهوم مثيراً للتفكير، وقد يحتاج إلى وقت للتجربة والحكم عليه، غير أنه يأخذنا حكماً إلى حديث أبو الجاسوسية تاريخياً، الجنرال الصيني والخبير العسكري الفيلسوف صن تزو، المتوفى عام 496 قبل الميلاد.

في مؤلفه العمدة «فن الحرب»، تبدو المعلومات بمثابة «حجر الزاوية» الذي تدور من حوله الانتصارات، أو تصاب جراءه الدول بالانكسارات.

«إن كنت تعلم قدراتك وقدرات خصمك، فما عليك أن تخشى من نتائج مائة معركة، وإن كنت تعرف قدرات نفسك، وتجهل قدرات خصمك، فسوف تعاني من هزيمة ما في كل نصر مُكتسب، أما إن كنت تجهل قدرات نفسك، وتجهل قدرات عدوك، فالهزيمة المؤكدة هي حليفك في المعركة». هكذا تكلم صن تزو على العكس تماماً من مبررات بيرنز الخاصة بـ«المقاومة الحكيمة للنزعة غير الإرادية إلى إبقاء كل الأمور سرية».

يخطر لنا أن نتساءل ما سبب هذا الطرح المفاهيمي الاستخباراتي الجديد، وهل هو مصمم بنوع خاص للمواءمة بين الحاجة إلى الجاسوسية البشرية من جهة، والانفلاش التكنولوجي من جهة أخرى، ووضع الأمرين في سبيكة جديدة لعالم جيوسياسي متغير بسرعة لم تعتدها البشرية؟

المقال أقرب ما يكون إلى أدب الاعترافات، حيث يكاد يُظهر أحشاء وكالة الاستخبارات الأميركية، آيديولوجياً قطعاً، وليس عملياتياً، إذ لا يوفر الاستفاضة في الكلام عن أزمات بلاده مع الصين القادمة من غير المقدرة على وقفها، حتى لو حاول بايدن أن يخنقها اقتصادياً، ولا ينفك يحاجج برغبات الرئيس الصيني شي جينبينغ في التمدد والتوسع ليس آسيوياً فحسب، بل حول العالم برمته.

بيرنز يتوقف طويلاً أمام ما يطلق عليه النزعة الانتقامية الروسية، ما يحمل على التنبؤ بأن معركة أوكرانيا ربما لن تصبح معركة القيصر الأخيرة، خصوصاً في ضوء توقعات فوزه برئاسة جديدة على عتبات مارس (آذار) المقبل.

تقترب كلمات سيد اللعبة الأميركية الاستخباراتية من حدود الإقرار بأن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد تتمتع بهيمنة واضحة، وأن التحديات الجيوسياسية متمثلة في ضغوطات الجغرافيا على الديموغرافيا، تختصم بحكم الطبيعة من مفاتيح القوة الأميركية، عطفاً على التهديدات المناخية الوجودية، ولأميركا فيها نصيب وافر، وعلى غير المصدق أن يتابع أجواء وأنواء الطقس في الأسبوعين الماضيين في كاليفورنيا الموعودة بهجمات إيكولوجية لا تصد ولا ترد.

أميركا اليوم إزاء تبعات ثورة تكنولوجية أوسع من الثورة الصناعية أو بداية العصر النووي، ما يفتح الباب واسعاً أمام «الثلاثي المرعب»، الذي سيغير أساسيات العمل الاستخباراتي أميركياً وعالمياً: «الرقائق المصنعة، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية».

هل الـ«سي آي إيه (CIA)» في مواجهة أزمات وتحديات عصرانية تعجز عن مقابلتها، بما يزيد من فرص الاضمحلال الإمبراطوري الأميركي، حتى إن بقيت عقوداً فاعلة ومؤثرة بدرجة أو بأخرى، ضمن إطار رؤية «المتقدم بين متساويين (Primus inter pares)»؟

تحاكي كلمات بيرنز أيقونات السطوة الأميركية المطلقة، لا سيما أن استخبارات لانغلي اليوم أمام عوالم متغيرة وغير ثابتة، ما يجعل من مهمتها أصعب من أي وقت مضى، ويمنح هذا الخصوم أدوات جديدة تربك وتضلل، بل وتعظم تجسس الآخر على العم سام.

الجزئية الأكثر إثارة في مقال بيرنز موصولة بفاعلية الأجهزة الاستخباراتية الأميركية، وفيما يذهب إلى أهمية العنصر البشري، والذي لا يمكن الاستغناء عنه بأية حال من الأحوال، يؤكد على ضرورة استعمال التكنولوجيا الناشئة مع مهارات التعامل مع الناس والجسارة الفردية، مهما بلغت قدرات أجهزة استخباراتية أخرى مكملة للـ«سي آي إيه (CIA)» خارج الأراضي الأميركية، من عينة وكالة الأمن القومي NSA والمنوط بها مراقبة «خائنة الأعين وما تخفي الصدور».

ما الدافع وراء كتابة هذا المقال؟

أغلب الظن أنه يأتي في وقت تعاني فيه الولايات المتحدة من أزمات متكالبة على واقعها السياسي والاجتماعي، ما جعل رجل الشارع يفقد ثقته بـ«رجاحة عقل» صناع القرار، و«نزاهة ورصانة» المؤسسات المختلفة، وكأن بيرنز يخبر الأميركيين بأنه ليس عليهم القلق فهناك من يحمي أميركا في نومهم ويقظتهم، في حلهم وترحالهم.

لا يمكن بأية حال أن نفصل فن الجاسوسية عن فن الحكم، وهو ما أشار إليه الكاتب الإيطالي الشهير نيكولا ميكافيلي في كتابه المخصص لأمير أسرة ميدتشي، لورينزو: «يجب أن يتمتع الأمير بفضائل أخلاقية وسياسية قائمة على المكر والقوة، وأن يتقن فن الحرب، وهو الهدف الوحيد للسلطة».

باختصار، طرح بيرنز مانيفستو للدولة الأميركية العميقة، الساعية في طريق القرن الأميركي بقوة وتنافسية، مهما تناحر بايدن وترمب، وغيرهما ممن سنراهم على الساحة عما قريب.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بيرنز بين صن تزو وميكافيلي بيرنز بين صن تزو وميكافيلي



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 10:18 2016 الخميس ,13 تشرين الأول / أكتوبر

كارينا كابور في إطلالة رشيقة مع أختها أثناء حملها

GMT 15:51 2019 الإثنين ,13 أيار / مايو

حاكم الشارقة يستقبل المهنئين بالشهر الفضيل

GMT 15:56 2018 الجمعة ,27 إبريل / نيسان

"الديكورات الكلاسيكية" تميز منزل تايلور سويفت

GMT 12:03 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

قيس الشيخ نجيب ينجو وعائلته من الحرائق في سورية

GMT 11:35 2019 الخميس ,09 أيار / مايو

أمل كلوني تدعم زوجها بفستان بـ8.300 دولار

GMT 08:09 2019 الأربعاء ,09 كانون الثاني / يناير

محمد صلاح يُثني على النجم أبو تريكة ويعتبره نجم كل العصور

GMT 19:44 2018 الثلاثاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

"شانيل" تبتكرُ قلادة لؤلؤية بطول 60 قدمًا

GMT 16:32 2018 الجمعة ,28 أيلول / سبتمبر

كنيسة قديمة تتحول إلى منزل فاخر في جورجيا

GMT 16:59 2018 الثلاثاء ,10 تموز / يوليو

جاكوبس تروي تفاصيل "The Restory" لإصلاح الأحذية

GMT 17:32 2013 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

مقتل صاحب إذاعة موسيقية خاصة بالرصاص في طرابلس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates