في السابع من مايو من عام 2000، وصل فلاديمير فلاديميروفيش لينين، إلى سدة الكرملين، في عمر السابعة والأربعين.أخذ بوتين يكتسب شعبية ونفوذا متزايدا في روسيا وخارجها، حدث ذلك بفضل التقدم الاقتصادي الذي شهدته البلاد. كان اختفاء البضائع الغربية المستوردة بعد تعويم الروبل سببا في زيادة الإنتاج المحلي. فضلا عن ذلك كان بوتين محظوظا بارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، وهو طوق النجأة للدولة التي تعتمد صادراتها بنسبة كبيرة على المحروقات.
في أثناء حكم بوتين عادت موسكو إلى الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية ودفع الرواتب ومعاشات التقاعد في مواعيدها. كما نجح بوتين في سداد الديون الخارجية وهو ما ضمن له تعاطفا من الغرب.
على أن خطيئة بوتين الكبرى في أعين الدوائر الفوقية الغربية، تمثلت حكما في إعلانه، أن روسيا يجب أن تستعيد مكانتها التي تستحق في السياسة العالمية، على الرغم من أن هذا الحديث قد راق للمواطنين الروس، فقد أصبحوا يشعرون بقيمتهم ومكانتهم بين دول العالم، وبخاصة بعد أن ذاقوا مذلة تفخيخ وتفكيك بلادهم من قبل الناتو، ورأس حربته الولايات المتحدة الأميركية.
لم تغفر واشنطن سرا اعتبار بوتين: "إن انهيار الاتحاد السوفيتي يعتبر المأساة الجيوسياسية الكبرى في القرن العشرين. وقطعه بعدم السماح لبلاده بتعرضها لتكرار ذلك "، غير أنها لم تشرع في إظهار عداوتها للقيصر، إلا حين استشعرت خطرا داهما في صحوة الدب الروسي، ومن هنا أفرزت مخططات القرن الأميركي للمحافظين الجدد، إستراتيجية الاستدارة نحو آسيا، بهدف حصار الصين، وخنق روسيا.
على أنه ومع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أظهرت القوى الغربية برمتها، موقفها من القيصر، ووصل الأمر حد تحريض السيناتور الجمهوري النافذ ليندسي غراهام على اغتيال بوتين من قبل أحد حراسه أو ضباط قواته المسلحة.
يتساءل المراقبون هل غياب بوتين عن الساحة الحمراء هو الحل؟
دعونا قبل الجواب المباشر نعود معا إلى نتائج استطلاع أجرته مؤسسة الرأي العام في روسيا أوائل شهر أغسطس آب الفائت، وتبين فيه أن 79% من شريحة الاستطلاع تثق في بوتين، و13% لا يثقون برئيس الاتحاد الروسي، فيما تعذرت الإجابة على 8% آخرين.
وبحسب غالبية المستطلعين (81%)، فإن الرئيس يعمل في منصبه "بشكل جيد على الأغلب"، ويعتقد 10% من المشاركين في الاستطلاع أن الرئيس يعمل بشكل سيئ على الأغلب.
هل ستتغير هذه النسب الداعمة لبوتين بعد تطورات المعركة الأخيرة مع أوكرانيا، والانسحاب المثير للريبة من قبل القوات الروسية؟
لا ينفك الإعلام الغربي يروج لحديث الهزيمة الساحقة التي تلقتها جيوش القيصر حتى الساعة، وإن كان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، قد صرح بأنه من المبكر التنبؤ بنتائج هجوم القوات الأوكرانية ضد الروس، وربما لهذا الترويج هدف آخر موصول بالحرب النفسية ضد موسكو، بأكثر من الحقيقة عينها.
حتى الساعة لا يزال المشهد الروسي العسكري مشوبا بالضباب والغموض، في الأيام الأخيرة على نحو خاص، وهناك من يرجع الأمر لأسلحة واشنطن الذكية الفتاكة التي دفعت الروس للعودة أدراجهم، ناهيك عمن يقطع بأن جنرالات من ذوي الأربعة نجوم، هم من يقودوا المعركة ضد القوات الروسية في الفترات الأخيرة.
وفي كل الأحوال لا يمكن الحسم بحقيقة ما حدث، بالضبط كما لا يمكن التنبؤ بردات فعل القيصر، وإن كان من المحسوم أنه لن يسقط، ولا يمكن أن تتعرض روسيا لهزيمة على يد أوكرانيا، ففي نهاية المشهد لدى الروس ما يكفل تحويل أوكرانيا برمتها ومن وراءها إلى تراب ذري.
هذه ليست القصة، بل بوتين هو قلب الرواية، وربما يكون بعض الضرر قد لحق به بالفعل مؤخرا، فبعض الروس تحت صدمة، وبعضهم الآخر غاضب جدا، وقد كتب أحدهم عبر موقع تليغرام يقول:"إنه إذا استمر الجيش الروسي في التقليل من انتكاساته في ساحة المعركة، فإن الروس سيتوقفون عن الثقة في وزارة الدفاع، وقريبا في الحكومة الروسية ككل".
هنا تبدو المحصلة النهائية، فقدان بوتين لألقه الذي تمتع به في أعين الروس لعقدين من الزمن، هذا إن لم تبادر العسكرية الروسية، إلى تغيير الأوضاع وتبديل الطباع على أرض المعارك مع الأوكرانيين، وهو أمر وارد وبقوة، في الأيام القادمة.
على أن الجواب على التساؤل المؤجل، يأخذنا إلى منطقة استشرافية مستقبلية، هناك حيث بوتين يمضي مع التاريخ، وقد ينصفه بوصفه أحد الذين بلغوا من العظمة شأنا كبيرا في مرحلة تالية، أو يلعنه كالكثيرين من قادة الزمن الشمولي التوتاليتاري السوفيتي.
يخيل للكثيرين أن صراع الغرب مع روسيا سيتوقف حال غاب بوتين عن الساحة، لكن هناك من يرى غير ذلك، ومن بين هؤلاء يجيئ المؤرخ البريطاني، أورلاندو فيغيس، والذي صدر له في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس الماضي، كتاب بعنوان "قصة روسيا"... ما الذي يخبرنا إياه السيد فيغيس؟
يعتقد الرجل بأن القول بحلول الليبرالية محل الديكتاتورية المتهم بها بوتين، هو قول مفرغ من الحقيقة، وعنده أن لدى الثقافة السياسية الروسية، معينا كافيا لتبرير العنف والشفقة على الذات والاستثنائية والجنون والاستبداد وحروب التعظيم الإمبريالي.
المعنى الواضح جدا في هذا الحديث، هو أن قيصرا آخر، بمعالم وملامح، بل ربما قسمات وجه بوتين، والتي تبدو قريبة من وجه لاعب البوكر، سيقفز على السلطة، وبحسب قوله إنه: "عندما أعاد ستالين كتابة التاريخ في ثلاثينيات القرن الماضي، كانت المزحة السوفيتية تقول إن "الماضي يتغير كثيرا لدرجة أنك لا تعرف ما الذي سيحدث بالأمس".
تفيد العبارة، ربما، بأن خليفة بوتين يتخلق الآن في الرحم الروسي، وتعطي انطباعا بقصور كبير في فهم أبعاد الأمة الروسية، ومعطيات كرامتها، وتقدير إرثها السلافي، والحفاظ على هويتها عبر مئات السنين.
لم يتصور جنرالات الناتو في زمن رونالد ريجان ومارجريت تاتشر أن كولونيل صغير العمر، في الأربعينات من عمره، سيقود نهضة فينيقية روسية، في مواجهة خطوب المهانة التي تعرض لها الإرث السوفيتي.
غياب القيصر ليس الحل... من غير عدالة لا سلام... والرهان على القوة الخشنة له حدود، بعدها تبدو القارعة أقرب للجميع من أي وقت آخر.