العالم من دون ترمب

العالم من دون ترمب!

العالم من دون ترمب!

 صوت الإمارات -

العالم من دون ترمب

سليمان جودة
بقلم - سليمان جودة

في إحدى قصصه القصيرة كان نجيب محفوظ قد راح يصوِّر منذ وقت مبكر، كيف أن الإعلام يملك القوة التي تجعل الأشياء موجودة ومؤثرة للغاية، أو يجعلها غير موجودة وغير مؤثرة على الإطلاق بالدرجة نفسها، كما سوف نرى من سياق هذه السطور!

كان ذلك منذ وقت مبكر لأن القصة التي صوَّرت هذا الموضوع، نُشرت ضمن مجموعة قصصية في طبعتها الأولى عام 1962، وكانت المجموعة تحمل هذا العنوان: «دنيا الله»!
القصة عنوانها «ضد مجهول» وكانت تدور في حي العباسية، أحد أحياء القاهرة القديمة، وكان البطل فيها ضابط بوليس ظل من أول القصة إلى آخرها يبحث عن الجاني في جرائم متكررة، كان مرتكبها يقترفها بطريقة واحدة وأسلوب واحد لم يكن يتغير ولا يتبدل، من دون أن يترك وراءه أي أثر يمكن الاستدلال به عليه!

كان أبناء الحي العتيق يستيقظون كل أسبوع أو أسبوعين على جريمة جديدة، وكانوا يعثرون على المجني عليه مخنوقاً بحبل دقيق يدور حول الرقبة، ولم يكن الأسلوب يختلف مع تنوع شخصيات المجني عليهم، وفي كل مرة كان الضابط يكاد يصاب بالجنون، لأن الجاني كان يبدو كأنه هبط من كوكب آخر إلى الأرض ليرتكب جريمته ثم يعود إلى حيث كان، أو يتبخر تماماً، إذا شئنا الدقة في التعبير، عما كان يحدث، وعما كان الضابط يجد نفسه في مواجهته في كل المرات!

وقد وصل الأمر إلى حد أن الأهالي عثروا ذات يوم على قتيل جديد، ألقى القاتل جثته على جدار من الجدران الخلفية لقسم الشرطة، وإلى الدرجة التي كان الضابط الحائر يستطيع معاينة الجثة من نافذة مكتبه الذي يطل على موضع إلقاء جثة القتيل!

ووصلت الأمور إلى ذروتها في يوم آخر عثروا فيه على جثة الضابط نفسه في مكتبه، بعد أن أنهى القاتل المتخفي حياته بالطريقة ذاتها التي قضى بها على كل الذين سبقوه!
وقد شاع الذعر في أنحاء الحي، وبلغ الهلع حد أن أبناءه الذين يستطيعون مغادرته قد غادروه، ودعا مدير أمن القاهرة إلى اجتماع في مكتبه حضره كل ضباط مباحث العاصمة، وانتهى الاجتماع إلى التوجيه باستمرار البحث بقوة عن الجاني، ثم انتهى إلى قرار غريب من المدير كان هو اللافت في الموضوع!
كان القرار أن يتوقف النشر عن الجرائم التي جرى ارتكابها، وكذلك عن أي جريمة جديدة تقع، وكان تقدير صاحب القرار في حينه، أن الخبر إذا اختفى من الصحف فإنه يختفي من الدنيا!

لاحِظْ أننا نتحدث عن بداية الستينات من القرن الماضي، وأن القصة التي نشرها أديب نوبل في كتاب عام 1962، قد كتبها بالضرورة قبل ذلك بفترة، ومن المحتمل أن يكون قد كتبها نهاية الخمسينات، أي قبل بدء بث إرسال التلفزيون في البلد أصلاً، وفي وقت كان الإعلام المؤثر يتمثل في صحف حكومية ثلاث ولا يتمثل في سواها، باستثناء الإذاعة طبعاً التي كانت قد سبقت قبل ذلك بثلاثة عقود!

وكان المعنى أن الإعلام وقتها هو الصحف الحكومية الثلاث الموجودة ومعها الإذاعة، وكان المعنى أيضاً أن ما يجد سبيله إلى الناس من خلالها هي الثلاث صحف ومن خلال الإذاعة، هو فقط الذي تستطيع أن تصفه بأنه موجود في حياة المواطنين، وأن ما يضل السبيل إلى الإذاعة والصحف الثلاث، لا تستطيع أن تصفه بأنه موجود ولا بالتالي مؤثر، لأنه ببساطة لا أحد يتكلم عنه ولا يتناوله!

وهذا بالضبط ما كان مدير الأمن يراه، وهو يفكر في طريقة توقف الفزع الذي استولى على أبناء الحي، ثم استولى على أنحاء العاصمة بكاملها، بل البلد كله مع الحي والعاصمة، من جراء جرائم كانت تظهر في أعين الضباط المعنيين بمقاومة الجريمة أنفسهم، كأن واحداً من الجن يرتكبها واحدة تلو الأخرى مطمئناً إلى أنه جنٌّ لا تراه العين!

كان محفوظ يستشرف المستقبل بشكل عجيب، وكان يرى من هناك في بدء ستينات قرن مضى، ما سوف نجد أنفسنا منشغلين به في بدء العقد الثالث من القرن الجديد!
إنني أتساءل منذ العشرين من الشهر الماضي، عن رجل كان إلى قبل هذا اليوم بساعة واحدة يتهيأ لمن يتابع أخباره، كأن شاعرنا أبو الطيب المتنبي كان يقصده على وجه التحديد، عندما تحدث في زمانه عن شيء أو عن رجل يمكن أن: يملأ الدنيا ويشغل الناس!

هذا الرجل لا بد أنك خمّنت اسمه، إذا كان قد فاتك أن ترى الاسم في عنوان هذه السطور، فإنه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، الذي لمّا تخلى عنه الإعلام بكل معانيه وتجلياته العصرية، اختفى عن الأنظار في لحظة وطواه النسيان!
من الجائز بالطبع أن تلمح اسمه هنا، أو أن تطالع صورته هناك، ولكن أين مثل هذا الظهور العابر من زمن كان الرجل فيه يطغى إعلامياً على كل ما سواه، وكان هو محط العيون في كل اتجاه، ومهبط الكاميرات في كل مكان قد يحل فيه؟!

وإذا شئنا الدقة أكثر، كان لنا أن نقول إن الرجل قد ابتلعه النسيان المفاجئ في الإعلام، بعد أن فقد القدرة على التأثير قبل العشرين من الشهر الماضي ببضعة أيام، وتحديداً منذ السادس من الشهر ذاته، عندما اقتحم أنصاره مبنى الكونغرس في العاصمة واشنطن، على نحو فريد لم تشهد البلاد مثيلاً له على مدى تاريخها الممتد لقرنين ونصف قرن من الزمان!

فبعد ساعات من واقعة الاقتحام التي هزّت الولايات المتحدة وصدمت العالم، كانت إدارات مواقع التواصل الاجتماعي قد بادرت فتعاملت مع ترمب، بذات الطريقة التي تعامل بها مدير أمن القاهرة مع الجاني الذي كانت جرائمه قد روّعت الحي والعاصمة!

إننا إذا رفعنا مدير الأمن من القصة، ووضعنا في مكانه مدير موقع «تويتر» على سبيل المثال، ثم إذا رفعنا كلمة الجاني من قصة محفوظ، ووضعنا في محلها اسم الرئيس الأميركي السابق، فلن يختلف الحال في قليل ولا في كثير، وسوف يظل تماسك القصة كما هو في وقت كتابتها من دون تغيير في شيء!
كان قد تبين أن الرئيس السابق يعيش ويتنفس في إعلامه الخاص، وكان قد خاصم الإعلام التقليدي منذ أن كان مرشحاً في سباق الرئاسة، وكان رهانه كله على حسابه الإلكتروني في «تويتر» وفي غير «تويتر»، وكان يغرد فيملأ الدنيا ويشغل الناس، ولم يكن يجري في خياله أن يوماً يمكن أن يجيء فيكتشف فيه أن سلاحه الأهم قد جرى نزعه من يده، وأنه من غير هذا السلاح يظل أقرب إلى الغياب منه إلى أي حضور!

كان موجوداً بالطبع كإنسان وقت فرض الحظر على حسابه، ولا يزال موجوداً بالصفة الإنسانية نفسها بعد فرض الحظر، ولكن الموضوع هو وجوده المؤثر في دنيا الناس، تماماً كما كان قاتل العباسية الخفي موجوداً في مكان لا يعرفه أهل الحي، ولكنهم كانوا يعاينون أثر وجوده بكل الحواس، وبكل ما هو فوق الحواس المتعارف عليها في حياة البشر!

والقصة أن الإعلام إعلام في الحالتين، ولا يختلف حاله من إذاعة وصحف ورقية كانت وحدها تنشر أنباء قاتل العباسية فتؤسس لتأثيره قبل وجوده، إلى فضاءات غير مرئية كان شاغلها الأميركي يصول فيها ويجول، فكان تأثيره يتأسس من خلالها قبل أن يكون له وجوده الشخصي بكل معناه!
الإعلام إعلام في كل الأوقات، ولكن نفي التأثير النافذ عبر فضاءاته بأي حيلة، لا يمكن طبعاً أن ينفي حقيقة الوجود!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العالم من دون ترمب العالم من دون ترمب



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 20:41 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الإمارات تدين عملية الدهس التي وقعت في سوق بألمانيا
 صوت الإمارات - الإمارات تدين عملية الدهس التي وقعت في سوق بألمانيا

GMT 20:34 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

ابنة أصالة نصري تتحدث عن معاناة عائلتها في ظل حكم الأسد
 صوت الإمارات - ابنة أصالة نصري تتحدث عن معاناة عائلتها في ظل حكم الأسد

GMT 22:24 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 21:01 2017 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار السجائر في الإمارات بعد تطبيق الضريبة الانتقائية

GMT 12:14 2020 الإثنين ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الثور الأثنين 30 تشرين الثاني / نوفمبر2020

GMT 07:44 2019 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

تامر حسني يعلن موعد عرض فيلم "الفلوس"

GMT 12:06 2018 السبت ,13 تشرين الأول / أكتوبر

دندن يبحث سبل تعزيز التعاون مع جمعية الشارقة الخيرية

GMT 16:46 2016 الثلاثاء ,09 شباط / فبراير

تخفيض دائم على سعر جوال "OnePlus 2" إلى 349 دولار

GMT 08:23 2016 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

توزيع جوائز القصة القصيرة بالتعاون مع مؤسسة "بتانة" الثقافية

GMT 11:42 2015 الخميس ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

المصممون يضعوا لمسة "الأهداب" الأنيقة لأحذية الرقبة

GMT 23:56 2015 السبت ,11 تموز / يوليو

الأمطار تغرق المناطق المنخفضة في روالبندي

GMT 07:31 2013 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

"THQ" تُقرر عدم إصدار لعبة "Avengers"

GMT 09:19 2017 السبت ,16 كانون الأول / ديسمبر

واريورز ينتصر على دالاس مافريكس في دوري السلة الأميركي

GMT 08:25 2015 السبت ,14 شباط / فبراير

ظهور ضوء مبهر وصوت هائل في سماء نيوزيلندا

GMT 10:51 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أمل رزق تستعد للمشاركة في مسلسل "للحب فرصة أخيرة"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates