بقلم: سمير عطا الله
في يوم من أوائل الستينات قال الزميل ذو الفقار قبيسي أمامي إنه اكتشف كاتباً ساحراً في «الهيرالد تريبيون» يدعى آرت باكوالد. منذ اليوم التالي وحتى توقُّف زاويته في الثمانينات، أدمنتُ قراءة زاوية باكوالد، التي كانت تظهر ثلاث مرات في الأسبوع. في الأيام الثلاثة الأخرى كان يكتب زاوية الصفحة الأخيرة رجل يدعى راسل بيكر. لشدة ما كان باكوالد طاغياً، خيّل إلي أن بيكر موجود هناك فقط لملء الفراغ. لم أحاول مرة قراءته.
دخل باكوالد في غيبوبة إثر جلطة دموية، ثم خرج منها ليكتب «ها أنا قد عدت لأكتب». وفي هذه الأثناء بدأت أقرأ مؤلفات راسل بيكر وأتابعه على التلفزيون حين أكون في أميركا. واكتشفت أنني طوال تلك السنين كنت أقرأ الرجل الخطأ. أو على الأقل كنت لا أقرأ الكاتب الأفضل.
بقي هناك كتاب واحد لراسل بيكر لم أقرأه لأنه مفقود ولم تُعَد طباعته، هو سيرته الذاتية بعنوان «النشوء». عثرت على نسخة منه ليس في أميركا، ولا من خلال «أمازون»، بل في مكتبة الجامعة الأميركية. يا سيدي المستر بيكر، ما هذه الروعة، ما هذه التحفة، ما هذه البراعة في تشكيل المفردات، ما هذه الثروة اللغوية، ما هذا المهرجان، ما هذا العيد، أي سرد هو هذا السرد يا مستر بيكر، أي صراحة وصدق وكِبَر؟
حاولت أن أعرف من كان أستاذ راسل بيكر. حسناً، أول معلميه في الصحافة كانت أمه التي دفعته إلى بيع الصحف وهو في الثامنة. وأمه التي انتقلت للسكن به وبشقيقته إلى شقة فوق شركة لدفن الموتى. كان لا بد من بيع الصحف لأن راتب الأم المدرسة ضئيل. وظل يفعل ذلك ليدفع مصاريف الكلية. وبعد تخرجه عمل في صحيفة «بالتيمور صن» بأربعين دولاراً في الشهر، قسم الجنايات. وأحب فتاة يتيمة مفلسة كثيرة المساحيق. لكن والدته حذرته: هذا النوع من النساء لا يصلح للزواج. ابتعدت اليتيمة من الطريق خوفاً من الأم، لكن راسل ظل يواعدها إلى أن أصبحت رفيقة حياته.
في جامعة جونز هوبكنز يعثر بيكر على أستاذه الثاني بعد أمه: ذات يوم يستدعيه في نهاية المحاضرة ويقول له: يا راسل، ما هذه الخشونة في حياتك؟ جميع أبطالك قساة وخشنون ومبالغون في الجدية. خصوصاً بطلك روبرت. ما رأيك لو أنك قبل الفصل الأخير تتركه يتوقف أمام حديقة وينحني ويقطف وردة؟ صِف الوردة.
نقلاً عن الشرق الأوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع