بقلم: سمير عطا الله
هذا هو اليوم الثامن من الحجر الذاتى داخل المنزل، والحمد لله على هذه الشرفة وجميع الشرفات. أتذكّر الذين أمضوا أعمارهم مُقعدين، حجر الدهر عليهم وجعل عالمهم بضعة جدران. أحدهم كان مارسيل بروست، أشهر كُتّاب فرنسا. كان «بروست» مصابًا بالربو، لا يستطيع أن يفتح نافذة غرفته المليئة بالستائر السميكة. أدرك الشاب أن الغرفة المُعقَّمة حُكمٌ مدى الحياة، فراح يبحث عن وسائل القوة عنده: الذاكرة.
راح يتذكر ويكتب «بحثًا عن الزمن المفقود»، التى سوف تصبح تحفة الرواية الفرنسية وإحدى تحف الأدب العالمى، فإذا كانت حياتنا متحركة، «فإن الذاكرة فى مكانها». هكذا راح يعتصرها بالثوانى والتفاصيل، غير مدرك أن الحاصل سوف يشكّل أحد أهم الأعمال فى أدب الرمز، فى جميع لغات العالم.
كان المهم شيئين: أن يتذكر وأن يكتب.. جملًا قصيرة وجملًا طويلة، إحداها بلغت 365 كلمة. وفى أخرى وصف مُوسَّع لمنديل على مائدة الطعام، ومن أى قماشة صُنع، أو صوت مرور المياه فى قساطل المبنى، ومن ثَمَّ يدخل فى تأملات روحية ونفسية حول كل الخواطر. كل ذلك يتلقفه «بروست» بأسلوبه الإيقاعى الجميل. ولم يكن يدرك أنه يقدم مادة فائقة للأدب العالمى فحسب، بل تحولت روايته إلى موضع دراسة عند علماء النفس وعلماء الأعصاب.
مُسجى على سرير الأمراض، عاش أيضًا الشاعر الملحمى بولس سلامة «عيد الرياض». سنوات وهو لا يرى سوى سقف الغرفة، ومع ذلك يكتب الشعر والنثر والدراسة الفلسفية الممتعة، كما فى كتابه «الصراع فى الوجود». مثل «بروست»، كانت الذاكرة أهم ما يملك. وقد عاد إليها حرفًا حرفًا ويومًا يومًا. ومن غرفته، أو محجره، استعاد مشاهد الزمن المفقود وجعل منها أعمالًا أدبية كبرى، مثل «مذكرات جريح» و«حكاية عمر» و«مِن شرفتى»، وهى جميعًا أجزاء من سيرة ذاتية حتى سن الخامسة والثلاثين، عندما أقعده حادث صحى وهو يقوم بعمله قاضيًا فى مدينة طرابلس.
ماذا تسمى ذلك؟ أدب الحجر، أدب العزلة، أدب الوحدة، أدب الأسر؟ السجون أعطت هى أيضًا آدابًا كبرى، خصوصًا فى السياسة: سولجنتسين الروسى، وناظم حكمت التركى، ودوستويفسكى، وكثيرون ممن فقدوا زمانهم ضمن جدران ضيقة وخلف نوافذ لا يمكن فتحها، إما قهرًا بالمرض وإما سطوة بالشاويش. والأعمال العربية لا تُحْصَى فى هذا الباب، كأنما السجون شرط للرواية والمذكرات.