عندما جاع أبو الثورات

عندما جاع أبو الثورات

عندما جاع أبو الثورات

 صوت الإمارات -

عندما جاع أبو الثورات

سمير عطا الله
بقلم: سمير عطا الله

بين الآثار الكلاسيكية الأكثر متعة في العالم، كتاب «الاعترافات» للسويسري جان جاك روسّو، الذي يُعتبر الأب الأول للثورة الفرنسية، التي اعتبرت بدورها أمّ الثورات في العالم. يروي روسّو في نحو ألف صفحة، سيرة مذهلة في عالمي الوضاعة والعلوّ. وقد اتخذت الاعترافات هذه الأهمية لسببين واضحين: الأول مكانة صاحبها، وثانياً التفاصيل الدرامية السوداوية أحياناً والساخرة أحياناً أخرى. نرى روسّو مشرداً بين سويسرا وفرنسا وإيطاليا، فقيراً لا يملك ثمن قوته، أو ينام في الحدائق العامّة من أجل أن يوفّر كلفة الغداء، عندما يضطرّ إلى الخيار بين الأرق والشبع. ويمتدح بصفاء وتواضع راحة النوم في الحديقة، حيث يستسلم لأحلامه الجميلة، كما يعلن انتصاره في ذكاء الاختيار بين ثمن النوم وثمن الطعام. فما هي الفائدة من أن تنام على سرير وأنت جائع.
لم يترك مفكّر الثورة الفرنسية مهنة إلا وجرّبها. وكم نرى من مشابهات غريبة ومأساوية بين ما تعرّض له من فقر ومجاعة وبين ما عاناه أبو الثورة الشيوعية، كارل ماركس. لم يعانيا الجوع فقط، بل تركا أولادهما يجوعون أيضاً. وقد تفانت زوجة ماركس في خدمته وباعت كل ما تملك، أما روسّو، فقد رُزق بخمسة أولاد من خادمته التي رفض الزواج منها، بكل قسوة. ولم يدّع ماركس معرفة أي مهنة أو حرفة غير الكتابة، غير أن روسّو انتحل جميع المهن التي لا يعرف عنها شيئاً. وبلغ به الأمر أنه زعم ذات مرة أنه مؤلف موسيقي. وبالفعل، دُعي إلى قيادة فرقة خلال حفل أُقيم في جنيف. ووقف قائد الفرقة العظيم ومعه عصا القيادة الماسية، وراح يتأمّل دفتر الموسيقى أمامه، فيما الموسيقيون يتأهبون للبدء في العزف. مضت دقائق وروسّو يتأمّل الألحان أمامه، والموسيقيون يتأمّلون الرجل الحائر بكل وضوح. كان لا بد من التحرّك. وراح روسّو يرفع العصا الماسية ويحركها يميناً وشمالاً، صعوداً ونزولاً، والنتيجة الطبيعية، ألحان مزعجة لا معنى لها، ولا وحدة فيها، والجمهور يتململ غير مدرك ماذا يحدث، بينما أعضاء الفرقة يضحكون من المقلب الذي وضعهم فيه ووضعوا أنفسهم أيضاً.
أنقذ روسّو ما تبقى من كرامته عندما طلب من الفرقة عزف أغنية شعبية شائعة في تلك الأيام، فطاب ذلك للحضور، وأخذوا يرقصون على أنغامها، ونسي الجميع أن الرجل الجائع هو مجرّد محتال لا يعرف من الموسيقى، حتى قراءة ألحانها. بعيداً عن الموسيقى، وضع روسّو أهم الكتب الفكرية، وبينها «العقد الاجتماعي» الذي أصبح دستوراً للأحكام المدنية. كما وضع أعمالاً أدبية خلّدته بين كبار الروائيين. وبقيت «الاعترافات» كتابه الأدبي الأكثر أهمية، وربما الأكثر صدقاً بين مذكّرات المشاهير.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عندما جاع أبو الثورات عندما جاع أبو الثورات



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 19:13 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:15 2015 الأربعاء ,25 شباط / فبراير

تنحي برلماني بريطاني بارز بسبب فضيحة رشوة

GMT 08:26 2013 الثلاثاء ,12 شباط / فبراير

"قيامة" مجموعة روائية تتناول علاقة العلم بالإيمان

GMT 21:24 2017 الأحد ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

سلافة معمار مثيرة في أحدث جلسة تصوير بعدسة بو منصور

GMT 14:49 2019 الأحد ,08 كانون الأول / ديسمبر

6 نصائح من خبراء الديكور لغرف نوم مميزة لأطفالك التوأم

GMT 05:00 2019 الإثنين ,15 تموز / يوليو

بان كيك بالشوكولاتة

GMT 23:03 2019 الثلاثاء ,26 شباط / فبراير

الأهلي يواجه طلائع الجيش في دوري سوبر السلة

GMT 08:28 2018 الخميس ,27 كانون الأول / ديسمبر

موديلات بليزر مخطط لإطلالة نحيفة للمحجبات في موسم الشتاء

GMT 00:51 2016 السبت ,13 شباط / فبراير

Tiffany & Co تحمل هدايا يوم الحب لكِ
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates