بقلم: سمير عطا الله
غريبة هذه الظاهرة التي رافقت قادة الدول في أوائل هذا القرن. أكثرهم لم يكن مولوداً في البلاد التي ولّي عليها: هتلر ولد في النمسا، ستالين ولد في جورجيا، أتاتورك في اليونان، وإيمون دو فاليرا، الرجل الذي جاء بالاستقلال لآيرلندا الحديثة، ولد في نيويورك على بعد ثلاثة آلاف ميل من دبلن. وفوق ذلك، لم يكن دو فاليرا آيرلندي الأب، بل كان والده مهاجراً إسبانياً من كوبا، وكانت أمه مهاجرة آيرلندية فقيرة. ولأنه ولد أميركياً في عام 1882، فهذا ما أنقذه من الإعدام خلال «ثورة الفصح» الشهيرة في عام 1916. ذلك أن البريطانيين الذين كانوا يحكمون آيرلندا لم يشاءوا يومها أن يغضبوا الرأي العام الأميركي.
وقد عرف الآيرلنديون رئيسهم الأول بالاسم التحببي «ديف»، كما عرف الأميركيون ثيودور روزفلت بلقب «تيدي». وكان روزفلت يقول إن أكبر استفتاء لتعلُّق الناس به هو هذه المناداة.
كان مؤسس الجمهورية الآيرلندية رجلاً بلا هوايات، يمضي الوقت في العمل وفي قراءة وليم شكسبير، كما كان واحداً من علماء الحساب في بلاده، أما لغة بلاده الأصلية فتعلّمها على كبر. عاش دو فاليرا حياة متواضعة طوال الوقت، وعلّم أبناءه السبعة هذه الفضيلة الكبرى.
وحين أتذكر أمثلة التواضع، أذكر دائماً أحد أبنائه الذي تعرفت إليه في صحيفة «الآيرش إندبندنت» في دبلن. وكان هو يومها مدير الصحيفة، فطلبت لقاءه من أجل الحديث عن الجنرال ديغول الذي اختار لنفسه المنفى الطوعي في آيرلندا ذلك العام. وأمضيت في مكتب الرجل نحو ساعة لم يذكر خلالها مرة واحدة أنه ابن مؤسس آيرلندا، ولم يشر إلى ذلك حتى من بعيد. ولم أعرف من كان الرجل إلا مساء ذلك اليوم عندما تحدثت عن اللقاء إلى زميل آخر.
مثل أتاتورك عاش إيمون دو فاليرا يتيماً. ومثله أيضاً تزوجت أمه بعد وفاة أبيه، فنشأ لدى خاله بينما بقيت هي في أميركا. انتخب دي فاليرا رئيساً لآيرلندا في عام 1959. أي بعد عشر سنوات من استقلالها، وتقاعد هو في التسعين من العمر في عام 1973. وتوفي عن 92 عاماً في عام 1975. وفي حين حلت مشكلة آيرلندا الجنوبية في زمن دو فاليرا، فإن مأساة آيرلندا الشمالية لا تزال من دون حل. فالذين كانوا ضحايا في الجنوب أصبحوا من أهل الظلم في الشمال، والذين طالبوا بحكم الأكثرية في الجنوب لا يقبلون بحقوق الأكثرية في الشمال.
إن آيرلندا الشمالية اليوم في حاجة إلى رجال شجعان يعملون في العلن، لا إلى مقاتلين يشعلون النار في الخفاء.