بقلم: سمير عطا الله
لا تعرف في هذه الحياة من أين تأتيك دروسها. لذلك نكرر مدى العمر حكمة صديقنا من البحرين، طرفة بن العبد، «ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّدِ». وقد رويت هنا غير مرة، كيف كنت أتمشى في الحديقة العامة في بروكسل فرميت من يدي ورقة في ذلك الفناء الواسع، فإذا بطفلة في حوالي الخامسة تلحق بي مسرعة وتلمّ الورقة وتضعها في يدي وتقودني إلى سلة القمامة، وتقول بشجاعة الملائكة: هذه مكانها هنا.
وكان ابني في حوالي العمر نفسه عندما كنا في الطريق من باريس إلى جنوب فرنسا. وتجاوزت السرعة قليلاً، فنبّهتني زوجتي إلى ذلك، فقلت لها، لا مراكز شرطة في هذه المنطقة. وتدخل الطفل المولود خارج لبنان ليقول لي: الشرطة موجودة لحمايتك، لا لمعاقبتك.
أول مرة جئت إلى باريس، كنت في العشرين من العمر. وكنت أتنقل في المدينة تحت الأرض: المترو. وكان المترو لا يزال عتيقاً وخشبياً ومؤدباً، وعلى جميع جدرانه إرشادات إلى الركاب، أهمها ملصق بلغة الأمر: أولوية الجلوس للمتقدمين في السن وللسيدات. ولذلك كنت أعبر المدينة واقفاً. وكنت سعيداً لكوني أفعل ما يفعله المتحضرون.
وجاء زمن لم أعد أركب المترو، لكن الدرس ظل محفوراً: الأولوية لكبار السن والسيدات. وكنت أتبع القاعدة حيث توجب الأمر: في المطارات، في الاجتماعات، وفي غيرها. لم أدرك تقدمي في السن إلا مؤخراً: أقف على مدخل الطائرة فيرفض الآخرون أن يتقدموني. وأهم بالنزول فيصرّ الجميع أن أتقدمهم. وفي السنوات الأخيرة تطورت آداب الرفاق المسافرين إلى ما هو أبعد في اللياقة واللطافة. صرت ألاحظ أن جيراني الشباب على الطائرة يحرصون على مرافقتي حتى حزام تسلم الحقائب. ويراقبون حركتي بكل تهذيب. وما أن ألمح حقيبتي وأندفع لحملها حتى يسبقني واحد أو أكثر ليحملها عني ويضعها في العربة أمامي.
إن هذا دليل ماذا؟ إنه يا هذا، دليلان: الأول، آداب المسافرين الذين كنت في عمرهم ذات يوم، أو بالأحرى ذات زمن. والثاني أن مظهر التقدم في السن أصبح في حد ذاته نداء مساعدة. إنه درس المترو، تطبقه الآن أجياله الحاضرة. ولكن أيضاً هذه اللطافة القصوى هي على نحو ما، ليست اللطافة القصوى، هي تذكير بذلك الانتقال الحتمي من فئة الذين يقدمون مقعدهم إلى فئة الذين ترق لهم قلوب الشبان على وزن حقيبتهم.
هل تدري من أين أيضاً يمكن أن تأخذ دروساً في أدبيات ومودات الحياة؟ من بلاد طرفة، من البحرين. بلد اللياقات واللطافات.