بقلم: بدر الدين الإدريسي
الذين عشقوا برشلونة، من فرط انبهارهم بسحر ليونيل ميسي، ولا يستطيعون تصديق أن الجوهرة التي أشاعت البهجة بينهم، سترحل للأبد عن سمائهم، هم من يبكون اليوم بحرقة، هم من يطلقون شرارة الغضب مستعرة مثل البركان، فيحرقون من حولهم كل الذكريات، وهم من يهددون إدارة برشلونة بإحراق «الكامب نو».
والذين أعماهم نبأ الرحيل، وقد تصوروا أن ليونيل ميسي محجوز بالكامل لبرشلونة، ولا حق لأحد بانتزاعه من «مملكة البلوجرانا»، ومن يجرؤ على مجرد الاقتراب منه، وقد ارتفع سقف التأميم ليصل إلى 700 مليون يورو، هم من يكثرون تحت وقع الصدمة، من الوعيد والتهديد، بل منهم من كسروا الأضلع وعصوا نواهي القلب، فرموا ميسي بالخيانة العظمى، رغم الملاحم الكروية التي صممها بإبداع لا يجارى منذ وصوله شبلاً إلى برشلونة، الملاحم التي جعلت منه أحد عظماء كرة القدم على مر التاريخ.
لو نحن خرجنا من جلباب التصوف، واستنشقنا هواء المنطق، لجزمنا بأن ليونيل ميسي محق في طلب المغادرة الطوعية عن «كتالونيا»، لأن من يريد أن يربطه ربطاً تعسفياً ببرشلونة، دون أي ناد آخر، إنما يمارس في حقه الاستعباد المنبوذ الذي لا يليق بالعباقرة، فميسي بحاجة لكوكب آخر ينثر فيه ضوءه النيزكي، بحاجة إلى تجربة جديدة تلهمه وتغذي طاقة إبداعه، وتطلق العنان مجدداً لنبوغه، وقد شعر لأسباب كثيرة أنه في برشلونة قل الهواء، وضاق العيش، وتقلصت مساحات الإبداع.
وكما أن ميسي بحاجة للتحرر من نمطية برشلونة، بعد سنوات حقق خلالها ما لم يسبقه إليه أحد من عظماء كرة القدم الذين مروا على النادي «الكتالوني»، فإن برشلونة وقد تأكد له بما لا يدع مجالاً للمزايدة، أنه بحاجة إلى ثورة شاملة، تغير نمط العيش وأسلوب اللعب وشخصية النادي، من دون أن تمس شعرة في هويته، بحاجة لأن يفعل ذلك بمنأى ومعزل عن ميسي، فلا قوة ولا جاذبية شخصية ميسي ولا سنه، وقد دخل البرغوث المنعرج الأخير في مساره كلاعب، تسمح بأن يبني «البارسا» عليه مشروعه الجديد.
من مصلحة برشلونة إذاً، لإنجاح هذا الانتقال الصعب والشاق الذي عاش في السابق مثيلاً له، ولبناء مشروع ما بعد ميسي وما بعد «التيكي تاكا»، أن يحدث ذلك بعيداً عن المؤثرات الضوئية لكوكب ميسي، الذي إن رحل اليوم عن سماء برشلونة، بعد 12 سنة من الومضات النيزكية الساحرة، ليشرق في سماء أخرى، فلن يرحل أبداً عن ذاكرة برشلونة، لأنه جزء من تاريخه الجميل، ولأنه أسطورة من أساطيره الساحرة، إن لم يكن هو أكثر تلك الأساطير سلباً للعقول.