الثقافات والمثقفون والثورة العلمية

الثقافات والمثقفون والثورة العلمية

الثقافات والمثقفون والثورة العلمية

 صوت الإمارات -

الثقافات والمثقفون والثورة العلمية

بقلم - رضوان السيد

أصل الفكرة مقالتان كتبهما العالم البريطاني تشارلس بيرسي سنو عام 1959 بعنوان: «الثقافتان والثورة العلمية». والمعروف أنه منذ أواسط القرن التاسع عشر ثار نقاشٌ بين البريطانيين والألمان حول مفهوم العلم.

وجون ستيوارت ميل كان يرى أنّ العلم الحقيقي هو العلم البحت والتجريبي، وأنّ المجالات المعرفية الأخرى لا تكتسب هذا الاسم إلاّ بقدر ما تقترب في طرائقها وبحوثها من النزعة التجريبية. ولأنّ الألمان كانوا شديدي الاعتزاز بمجالي التاريخ والفلسفة اللذين يعتبرونهما من علوم الإنسان، فقد شاع هذا الخلاف المنهجي بين علوم الإنسان وعلوم المادة والطبيعة.

ثم حدث تقاربٌ منهجيٌّ من خلال بحوث وتجارب مدرسة فيينا في العلوم النفسية الاختبارية والتحليل النفسي، والوضعانية الفرنسية في علوم الاجتماع لدى أوغست كونت وأميل دوركايم، والاقتصاد السياسي والإحصاء لدى آدم سميث والجغرافيا الطبيعية لدى ألكسندر فون هومبولت. فمن جهة نمت وتعددت مجالات العلوم الإنسانية، ومن جهةٍ أخرى تقدمت النزعة الاختبارية فيها، دون أن يعني ذلك إلغاء المسافات بين الاختصاصات التي تعتمد التجربة والأخرى التي تظل شديدة الاعتزاز بعوالم الإنسان وتعقُّل الذات والوجود والعالم.

تشارلز بيرسي سنو أتى بعد مائة عامٍ على اندلاع هذا النقاش وتطوراته في المجال العلمي والآخر الثقافي. وهو بحكم أنجلوسكسونيته واختصاصه العلمي الأول لجهة دراسته في الفيزياء ظلّ تجريبياً إلى حدٍ ما، لكنه صار تحت وطأة الثورات العلمية في كل المجالات يميل مثل كثيرين إلى وحدة مصادر الإبداع سواء في العلوم الاختبارية والبحتة، أو في المجالات الأدبية والفنية. لكنْ روَّعه أنّ السوق الثقافية العامة حتى في بريطانيا والولايات المتحدة، تطلق لقب المثقف على الفنانين والرسامين والمؤرخين وكتاّب المقالات في قضايا الشأن العام، في حين لا تعتبر علماء الرياضيات والفيزياء والكيمياء مثقفين. لقد حسب في البداية أنّ ذلك يعود إلى البدعة الفرنسية التي تتحدث عن المثقف الأنتلجنسي الذي يملك تصورات نقدية لقضايا الشأن العام.

يرى سنو أن الثورات العلمية سواء في علوم المادة أو علوم الإنسان ووسائل الاتصال أزالت الفروقات. وذلك لأنّ مصدر الإبداع واحد، وما عاد للتجربة المعنى نفسه. وبالطبع أيام سنو ما كان زمان الحقائق الاعتبارية والذكاء الاصطناعي والديجيتال قد حلَّ بعد وبلغ المبلغ الذي هو عليه اليوم، وذلك يؤيد وجهة نظره بلا شك في عدم التفرقة، فقد توفي سنو عام 1980.

وبهذا الصدد يتلفت سنو إلى كبار العلماء مثل أينشتاين وهوكنغ وغيرهما، ويتساءل عن تأثير هؤلاء في إنجازاتهم العلمية بالذات على صورة العالم ومصائره. وهكذا فنحن نسمي أرنولد توينبي أو أريك هوبسباوم وهما مؤرخان كبيران، نسميهما مفكرين ومثقفين لأنهما يملكان تصوراً للعالم والتاريخ، وكذلك الروائي جورج أورويل صاحب «حديقة الحيوانات» والعالم 1984، ولا نعتبر علماء الرياضيات والفيزياء مثقفين مع أنّ إبداعاتهم غيّرت العالم وصورة الكون، وغيّرت السياسات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.

يذهب سنو إذن إلى أنّ الثقافتين المتفارقتين العلمية والأدبية تعكسان صورةٌ وهميةٌ لزمانٍ مضى وانقضى. فالثورات العلمية أوصلت إلى وحدة العلوم، وما من تصورٍ جديدٍ حتى في اللغة إلاّ ويمتح من أصولٍ في العلوم البحتة والتطبيقية. الشغف الإنساني العميق هو دافع الإنجازات الكبرى سواء في المجالات النظرية والأدبية، كما في المجالات البحتة والتطبيقية. فالإنسان واحدٌ والإنجازات إنجازاته النابعة من ذاك الشغف في مجالات المعرفة والإبداع أياً كانت مآلاتها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الثقافات والمثقفون والثورة العلمية الثقافات والمثقفون والثورة العلمية



GMT 02:30 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

السادة الرؤساء وسيدات الهامش

GMT 02:28 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

«وثائق» عن بعض أمراء المؤمنين (10)

GMT 02:27 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

من يفوز بالطالب: سوق العمل أم التخصص الأكاديمي؟

GMT 02:26 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

روبرت مالي: التغريدة التي تقول كل شيء

GMT 02:24 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

السعودية وفشل الضغوط الأميركية

GMT 17:40 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 19:20 2020 السبت ,31 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العذراء الأحد 31 تشرين أول / أكتوبر 2020

GMT 15:06 2020 الإثنين ,17 آب / أغسطس

طريقة تحضير ستيك لحم الغنم مع التفاح الحار

GMT 20:28 2018 الأربعاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

غادة عادل تنشر صورتها مع زميلاتها في إحدى صالات الجيم

GMT 22:38 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

الغساني يبدي سعادته بالأداء الذي يقدمه مع الوحدة

GMT 16:15 2015 الأربعاء ,04 شباط / فبراير

"بي بي سي" تطلق موقعًا جديدًا على الإنترنت

GMT 21:06 2021 الإثنين ,26 إبريل / نيسان

طقس غائم وفرصة سقوط أمطار خلال الأيام المقبلة

GMT 20:01 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 06:47 2021 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

ابرز النصائح والطرق لتنظيف السيراميك الجديد لمنزل معاصر

GMT 08:14 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

"أدهم صقر" يحصد برونزية كأس العالم للخيل في باريس

GMT 09:42 2019 الأربعاء ,19 حزيران / يونيو

"بيوتي سنتر" مسلسل يجمع شباب مصر والسعودية

GMT 22:57 2019 الأربعاء ,06 آذار/ مارس

بن راشد يعتمد 5.8 مليار درهم لمشاريع الكهرباء
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates