قرأت في صحيفة «الاتحاد» الظبيانية (25/2/2024، ص30) مقالةً للكاتب هاني سالم مسهور عنوانها: الحوثي وقد خرق السفينة. وكان يرمز بذلك إلى السفينة التي خرقها رفيق موسى في سورة الكهف (71)، وهو يشير بذلك إلى الفرق بين ما ابتغاه صاحب موسى من مقصد حسن، وما يقصده الحوثيون في تعرضهم للأمن البحري ببحر العرب والبحر الأحمر. وهو يرى أنه يبلغ من سوء المقصد والمآل لدى هؤلاء أنهم خرقوا سفينة اليمن كله وعرّضوه للهوان والهلاك خلال أكثر من عشر سنوات!
أما في هذه المقالة فأريد الحديث عن سفينةٍ أُخرى تَرِدُ في حديثٍ نبوي وترمز إلى وحدة الإنسانية والمسؤولية الجماعية عن المصائر. جاء في الحديث: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً»، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو: {واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أن الله شديد العقاب} (الأنفال: 25).
بدأت المشكلة اليمنية الأحدث عام 2011، وتدخل الخليجيون بسرعة لوقف الفوضى وانعدام الأمن وتسيُّب الحدود، وأدخلوا سائر الفرقاء (ومنهم الإخوان والحوثيون) في حوار وطني واسع، وأقنعوا بصعوبة الرئيس علي عبد الله صالح بالتنحي، واعتقدوا أنهم حظوا بموافقة الجميع على مرحلة انتقالية. لكنّ الحوثيين أغروا علي صالح بالسير معهم ضد السلطة الانتقالية فاحتلوا صنعاء ومضوا نحو مدن الساحل ونحو عدن والجنوب. فاضطر الخليجيون للتدخل بعد صدور القرار الدولي رقم 2216 لصالح السلطة الشرعية وضد الانقلاب. ومن دون تفصيلٍ كثيرٍ وطوال السنوات العشر وأكثر، مرت الجبهة الخليجية لصالح أمن اليمن، وأمن حدودها البرية والبحرية بأربع أو خمس خطط أو مراحل تتعدد أسماؤها، وكلها لا تستهدف إنفاذ القرار الدولي بتمامه، بقدر ما تريد الوصول إلى حلٍّ وسط مع الانقلابيين الحوثيين دونما فائدة، بل زيادات في التخريب وإهلاك اليمنيين.
كيف استطاع الحوثيون الصمود في المناطق التي احتلوها، وكيف قووا حتى هددوا الحدود البرية للدول، وأمن البحار والتجارة، وهم يقومون بذلك الآن بحجة التحزب لغزة!
عملت إيران برنامجاً لإعادة تربية فريق من اليمنيين بإيران منذ أوساط التسعينات، والتربية كانت مذهبية ثم صارت عسكرية. وبعد عام 2004 أو 2007 صارت تُمدُّهم بالسلاح الواصل بطرق مختلفة إلى اليمن، خلال نشوب ست حروب بينهم وبين الجيش اليمني حتى عام 2010! ومع نشوء الاضطراب في اليمن، أدخلت إيران الحوثيين في استراتيجيتها الصانعة للميليشيات المذهبية المسلحة مثل سوريا والعراق ولبنان، وبدلاً من السعي للانفصال بصعدة وحجة والجوف مثلاً، صار الهدف الاستيلاء على اليمن كله وإعادته إلى ممتلكات آل البيت، وتهديد السعودية في البر، وتهديد العرب والعالم في البحر! فالسند الأول إيران التي كونت الميليشيات ودرّبتها وأمدتها بالسلاح المتوسط والثقيل ومكونات المسيّرات وخبراء «الحرس الثوري» و«حزب الله» اللبناني. ويقول الأميركيون إن هؤلاء لا يزالون موجودين باليمن وزادت أعدادهم!
الأميركيون (والبريطانيون) الذين يشكون الآن من خطر الحوثيين ومدرّبيهم على الأمن البحري هم الذين منعوا طوال عشر سنوات من الانتصار عليهم، وحتى منعوا الضغوط عليهم لإرغامهم على المهادنة والسلام. كلما ضاقت بالحوثيين الحيلة لجأوا للتظاهر بقبول السلم أو الهدنة الطويلة، وسارعت الولايات المتحدة إلى تعيين مندوب خاص لليمن إلى جانب المندوب الدولي لإقناع الحوثيين، والإسراف في التنازل لهم. وحتى عندما «قسا» ترمب عليهم وعَدّهم تنظيماً إرهابياً جاء بايدن فأخرجهم من ذلك بحجة ضرورة إيصال المساعدات الإنسانية. والحوثيون كانوا هم الذين يسطون على المساعدات ويعيدون بيعها في أسواق المناطق التي يسيطرون عليها! لماذا كان الأميركيون يجاملون؟ كالعادة ضد العرب منذ عام 2001، ومن أجل تجنب النووي الإيراني، والإصغاء بقدر الإمكان لإيران ما دامت تسيطر على أربع دول عربية... ومجاهدي غزة الأشاوس الآن!
في الغزوات البحرية التي يقوم بها الحوثيون في البحرين العربي والأحمر بحجة دعم غزة و«إرغام» الإسرائيليين على وقف هجومهم الهائل، الجميع يعلم أن إسرائيل غير متضررة، وكذلك الأضرار التي تقع بالسفن الأخرى. وقد قالت لهم الحكومة اليمنية الشرعية مراراً إنّ أساطيلكم لن توقف هجمات الحوثيين، وقد كان الحل منذ البداية تحت أنظاركم، ويتمثل في دعم السلطة الشرعية بحسب القرار الدولي، بحيث تكون هي الكفيلة بحماية أرضها وحدودها البرية والبحرية.
سفينة الحديث النبوي رمز لوحدة العالم ووحدة مشكلاته. ولا يجوز الاستخفاف بالقلة الشاذة والضرر الضئيل؛ لأنه إذا لم يؤخذْ على أيدي المفسدين (كما يسميهم القرآن) فسيصبحون مع الغوغاء كثرةً همها التخريب والتجويع والتسلط، وستخرب السفينة لخراب أسفلها! وما عرفنا من عدة عقود ميليشيا (ولو سميت تنظيم تحرير) تتحول لتكون دولةً منتظمةً للجميع. إذ عمل أي ميليشيا أقلوية إفساد قضية الأكثرية التي تهمها المصالح العامة والوحدة. وإذا سادت اعتبارات مصلحة العامة فلا تبقى للحزبيين وأهل العصبيات حظوظٌ ولا مكاسب.
بعد عشر سنواتٍ وأكثر تقول المنظمات الإنسانية الدولية، ومنها الأميركية، إنّ نصف الشعب اليمني جائع، والمعلمون في المدارس لم يتقاضوا مرتباتهم من تسع سنوات، والمدارس خربت أو تحولت إلى مراكز لتدريب الأطفال على حمل السلاح للدفاع عن سلطة آل البيت! وعندما أسمع واحداً يرتدي لباس الجيش «الوطني» ويتحدث عن حماية الوطن وضرب الغزاة، يصيبني من الإحباط ما يصيبني عند سماع وزير الخارجية الإيراني وهو يهاجم الولايات المتحدة وبريطانيا لاعتدائهما على سيادة اليمن. وهي سيادة اليمن الضائعة بين الحوثيين وإيران والولايات المتحدة وحلفائها!
قال لي الشاعر والمفكر اليمني الراحل عبد العزيز المقالح عام 2019 فيما أذكر: «ظللتم تقولون لنا إعزازاً وتكرمة: لا بد من صنعاء وإن طال السفر! وكنا نجيبكم: بل لا بد من بيروت وإن طال السفر، والآن خربت صنعاء وبيروت، فالمرجو ألا تذكروا اعتزامكم السفر إلى أي مدينة عربية حتى لا تدمِّروها!».
رحمك الله يا مقالح فقد كنت يمنياً كبيراً وعربياً كبيراً حقاً. وما دَمَّرتْ صنعاء ولا بيروت رغبتُنا في السفر إليهما، وإنما أهلكتهما كدمشق وبغداد وغزة وطرابلس والخرطوم مسالمة الأكثرية العاجزة، والاستقواء الإقليمي بانقسامنا، والخضوع للسياسات الدولية، والتنكر أولاً وآخِراً لعهود الأسلاف الذين بنوا تلك المدائن وحضارتها.