هل هو تنازعٌ على قيم التنوير

هل هو تنازعٌ على قيم التنوير؟

هل هو تنازعٌ على قيم التنوير؟

 صوت الإمارات -

هل هو تنازعٌ على قيم التنوير

رضوان السيد
بقلم - رضوان السيد

بسبب طول فترة التظاهر بالجامعات الأميركية من أجل الحرب على غزة، كان هناك من شبّه ظاهرة احتجاج الشباب بما حدث في الستينات من أجل الحقوق المدنية، ثم من أجل الحرب الفيتنامية التي كانت الدولة أميركا غارقةً فيها. وكما هو معروفٌ، فإنه في عام 1971 صدر كتاب: نظرية العدالة لفيلسوف القانون الأميركي جون راولز، والذي لا تزال النقاشات دائرةً حوله بين النُخب القانونية والفلسفية طوال خمسة عقودٍ وأكثر.

كان سؤال جون راولز عن إمكانيات النظام الليبرالي في مواجهة الإغراء الآخر المتمثل في الأنظمة الشمولية في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. ولأنّ الاتحاد السوفياتي انهار بعد عقدين؛ فإنّ المعنى الأخلاقي البارز لحركات الشباب آنذاك ومنها ثوران أواخر الستينات للطلاب في أوروبا وأميركا توارى وتراجع. لكن معلّقين عديدين يصرّون اليوم على أنّ ما جرى ويجري كان نعياً على التنوير وقيمه وأخلاقياته والذي بدأ الثوران على مسلَّماته الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أواخر القرن التاسع عشر وإلى زمن الفلاسفة الفرنسيين الجدد في الثلث الأخير من القرن العشرين. في حين يربط آخرون هذا الثوران ذا الطابع الأخلاقي والتطهري بأمرين آخرين: النزاع في الغرب وعليه، والثورات التكنولوجية الهائلة التي تمضي باتجاه تشييء الإنسان والعدميات المرتبطة بنزعاته الجارفة. وفي الوقت نفسه يربط آخرون من فلاسفة العلم والسياسة كل ما يجري بالنزعات الفوضوية التي يكون على الدولة الغربية مقاومتها إبقاءً على قيم التنوير بالذات!

في عام 1977 كما هو معروفٌ أيضاً ظهر كتاب إدوارد سعيد: الاستشراق، الذي يُدين ذلك التخصص أو الاهتمام باعتباره استمراراً لظاهرة الاستعمار وآيديولوجياته ومنها ما يرتبط بالتنوير ومسلَّماته. وتطورت هذه الظاهرة النقدية في بحوث التابع subaltern التي تنعى على الغرب كلّه وعلائقه بإنسانية الإنسان وبمصائر نظام العالم الحديث والمعاصر والذي يُظهر انحيازاتٍ كبرى في الظواهر اليمينية التي تحفل بها اليوم الأنظمة التي كانت تقودها أوروبا وأميركا بعد الحرب الثانية والتي ضعُف الاقتناع بها في أوساط الشباب بالذات. فكتاب جون راولز هو انتصارٌ لإمكانيات النظام الليبرالي غير المحدودة، أما جذريات ما بعد الغرب وما بعد عالم أميركا في تساؤلات الدارسين اليوم فهي إدانةٌ لذلك السواد، ودعواتٌ للتحول على المستوى العالمي.

بعد هذه التأمليات الشاسعة الأبعاد، لنتلفت قليلاً إلى مسألة إسرائيل ومسألة الترتيبات الاستراتيجية التي أنتجتها باعتبارها انتصاراً للغرب الصاعد وقيمه. فمنذ الحرب الأولى ومبدأ ويلسن في حق تقرير المصير للشعوب المظلومة (1920) اعتُبر الانتصار الثاني في الحرب الثانية إحقاقاً لقيم التنوير والعالم الأميركي ومن ضمنه قيام الكيان في عام 1948. وفي حين صار زمن ما بعد الحرب وقيام الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) خروجاً إلى حريات عالمية؛ ما اعتبر الكبار في النظام الدولي ومنهم السوفيات، احتلال فلسطين استعماراً وليس ظلماً لشعبٍ آخر من حقه أيضاً أن يدخل إلى مبدأ ويلسون في حق تقرير المصير. وأقصى ما أمكن بلوغه بعد نضال المائة عام قول الأميركيين اليوم، بحلّ الدولتين.

سيقول أنصار الحق الفلسطيني: لكنّ الأميركيين وقبلهم الأوروبيون ما أظهروا من الاهتمام في زمن انتصارهم لقيم التنوير وحقوق الشعوب في الحرية، ما أظهروه تجاه النضال ضد التمييز العنصري وتحرر جنوب أفريقيا. وهنا تأتي الخصوصية التي تحوط المسألة اليهودية والتي شهدت اهتماماً ومعالجة حتى من جانب كارل ماركس في زمن ظهور القوميات قبل مائتي عام. فقد تعرّض اليهود لظلمٍ فظيعٍ في الزمن النازي بعد تمييزٍ استمر قروناً؛ ولذلك انتصرت قضيتهم في إقامة الدولة على حق الشعب الفلسطيني في أن تكون له أيضاً دولته. ولذلك أيضاً وأيضاً ما شهدت مذابح إسرائيل في غزة من يقول بإدانة «قيام» الكيان، بل هناك إعلانٌ دائمٌ بحق إسرائيل في الوجود، وطلبٌ ملحٌّ من الفلسطينيين والعرب أن يسلّموا بذلك شرطاً لا بد منه للذهاب المتردد باتجاه الدولة للفلسطينيين على رقعةٍ صغيرةٍ من أرض فلسطين تغصُّ بالمستوطنات!

ولنعد إلى القضايا الثلاث الكبرى: الغرب الذي صنع العالم الحديث والذي تتعرض سطوته وحضارته وقيمه لتشكيكٍ كبيرٍ من داخله ومن الأطراف التي ما عادت تقبل سيطرته - والتحولات الكبرى التكنولوجية والقيمية - وراديكاليات التحولات الملحاحة من أجل التغيير. إنّ الواضح اليوم من ظواهر العنف المنتشر بشكلٍ صاعقٍ أنّ التحول المطلوب غير المرغوب من جانب المسيطرين - لا يحمل إمكانيات التصالح أو التوافق على التغيير لصالح المجموع الإنساني. فالذين سيطروا لقرابة الثلاثمائة عام لا يقبلون في العمق تحولاتٍ باتجاه التناصف والإنصاف. إذ أين سيحدث التناصف أو التوافق مع تجنب العنف؟ سيحدث إن أمكن من خلال المؤسسات القائمة، وبنيتها غربية جميعاً، وهي لا تملك المرونة الكافية للتنازل باتجاه قيم جون راولز للعدالة. بيد أن الغربيين حتى الذين ظلوا ليبراليين يقولون إنّ الضغط الهائل الذي يتعرض له النظام العالمي يهدّد بالتصدع والانكسار والمضيّ باتجاه فوضى عارمة وإبادات ومجاعات وعواصف تشبه ما يجري في متغيرات المناخ! ويجيبهم خبراء المناخ بالقول: لكنّ اختلالات المناخ سببها أيضاً النظام الجائر وغير الإنساني الذي صنعه الغرب الليبرالي (!).

وهكذا، فإنّ الحديث بين الليبراليين المتحولين نحو اليمين المتشدد - والراديكاليين الجدد المطالبين بالتغيير– هو حديثٌ يشبه ما يجري بين الصُمّ الذين يرفعون أصواتهم من دون أن يفهم أحدهم ما يقوله الآخر.

وهكذا، فإنّ النضال الفلسطيني من أجل الحرية، يخالطه سوء حظٍ أو سوءٌ حقبي فظيع. فالزمن ليس زمن التحرر من الاستعمار، بل هو زمن المخاض الكبير الناجم عن تصدع الباراديغم الغربي، وظهور الثقوب في سائر أجزائه ومن الداخل. التغيير العالمي هو مثل التنوير صار متنازعاً عليه مفهوماً وإمكانيات ومناهج وسُبُلاً. فبماذا يأمل الطلبة الأميركيون الثائرون بالجامعات الليبرالية العريقة من أجل غزة؟

في العام 1794 كتب إيمانويل كانط رسالته في السلام الدائم. أما البابا فرنسِس فيتحدث اليوم متشائماً عن سلام الحد الأدنى المستند إلى أخلاق الرحمة والضيافة والجوار:

فهيهات هيهات العقيق ومن به وهيهات خِلٌّ بالعقيق نواصِلُه

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هل هو تنازعٌ على قيم التنوير هل هو تنازعٌ على قيم التنوير



GMT 04:06 2024 الثلاثاء ,17 أيلول / سبتمبر

وحدة الساحات

GMT 01:28 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

قبعة ومسدس

GMT 01:26 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

... عن أولئك المستوطنين الدينيّين!

GMT 00:56 2024 الأربعاء ,11 أيلول / سبتمبر

حرامي كُتب... محترم!

GMT 00:55 2024 الأربعاء ,11 أيلول / سبتمبر

محور نتنياهو ــ السنوار ــ بايدن

GMT 10:24 2024 الإثنين ,16 أيلول / سبتمبر

طرق متميزة ومُساعدة في تنظيف غرفة النوم وتنظيمها
 صوت الإمارات - طرق متميزة ومُساعدة في تنظيف غرفة النوم وتنظيمها

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

يحمل إليك هذا اليوم كمّاً من النقاشات الجيدة

GMT 20:03 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 02:29 2024 الأحد ,01 أيلول / سبتمبر

أطفال غزة يبدأون أخذ تلاقيح شلل الأطفال

GMT 06:33 2024 السبت ,06 تموز / يوليو

سوناك يقر بالهزيمة في انتخابات بريطانيا

GMT 10:44 2020 الأحد ,13 أيلول / سبتمبر

جيني إسبر تُعلق على عدم تواصلها مع نسرين طافش

GMT 16:04 2020 الأربعاء ,01 إبريل / نيسان

غريفيث يُحذِّر من عواقب تفشي "كورونا" في اليمن

GMT 15:38 2019 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

تعرف على مميزات سيارات "مازدا 3"

GMT 16:21 2013 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

اجتماع حول مشكلة الوحدات السكنية في مدينة الابيار الليبية

GMT 14:14 2013 الأربعاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

"مستورة" رواية فلاحة مصرية عن دار "دوّن"

GMT 01:15 2016 الثلاثاء ,08 آذار/ مارس

أروع النشاطات الممتعة في أبو ظبي
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates