بقلم - محمد اليامي
"يجب ألا يتجاوز ارتفاع الماء في القدر ثلثي ارتفاعه، على أن يكون اللحم على ارتفاع ثلث منه، وثلث فوقه من الماء، سينضج اللحم عند تبخر الثلث الأعلى، ثم تنقله إلى قدر ساخن، وتقوم بطهي الأرز في الثلث المتبقي من المرق، وعند اختفاء الماء من على السطح يمكنك إضافة الحليب، وتراقبه كي لا يتكتل".
هل يبدو الكلام أعلاه تمرينا فيزيائيا؟ أو كيماويا؟ حسنا، في عالم الطهي إنه شيء من ذلك، قليل من الكيمياء والفيزياء، تعليمات يمكنك اتباعها أو ترك الأمر لمن سيطهو "السليق" وفق خبرته وغريزته معتمدا على النظر والحدس والخبرة والموهبة.
الطهي عمل إبداعي تشارك فيه كل الحواس، وتخالطه - أحيانا - روح أو كيان من يطهو، وهو ما بسطه رجل الشارع المصري بكلمة "النفس"، ذلك الامتياز الذي أول ما يمنحه الإنسان للأمهات، لأن الأم تضيف إلى الطهي بروحها وكيانها، الطهي بحب.
لدي قناعة أطبقها ما استطعت، أن المطعم ذا الفرع الواحد والعريق لا بد أن يكون أفضل من ذلك ذي الفروع الكثيرة، فالأول في الأغلب لا يفقد نكهته، لأنها ترتبط بالطاهي الذي ربما يمكن استنساخ وصفاته أو قائمته، لكن يصعب ويندر استنساخ بصمته، ولعلك لاحظت أن الطبق الذي تحبه في مطعم ما لا تجده شهيا في الفرع الآخر للمطعم نفسه.
أغلبنا لا يفرق بين الأكل في الخارج، والأكل من الخارج، فهما تجربتان مختلفتان تماما وإن بدت متشابهة عند الأغلبية، مختلفتان في المعنى، وفي العلاقة مع الأطباق والمطابخ المتنوعة للشعوب، وأقل هذه الاختلافات أن بعض الأطباق لا يمكن أن يؤكل بعد أن ينقل.
في فترة الحجر المؤقت خلال العام الماضي، استعاد البعض لياقتهم في الطهي، وابتكر البعض أشياء جديدة، كان ذلك يشبه إعادة اكتشاف الذات، وإعادة تحليل الجانب الغذائي والترفيهي المتعلق بالمطاعم، ولمن تأمل أكثر في التجربة هو إعادة تقييم للتغييرات الجذرية التي تضفيها الحياة الحديثة إلى العادات الغذائية، وعلى ذائقة الطعام الخاصة بكل فرد.
ربما يكون الطهي من بين بقية الفنون هو الفن الذي يحمل الابتكار فيه مخاطرة كبيرة، وهو كلما كان عريقا عتيقا يحتفظ بما يفترض أنه يحتويه من تراث شعب أو عائلة، كان أجمل. إنه يقترب من المنحوتات التي لا يمكن العبث بها، التي ربما إذا تكسرت لن تعطيك النسخ المنحوتة على شاكلتها الإحساس نفسه.
ربما يكون أيضا هو الفن الذي لا يقبل إلا بانتظام الحواس، لا فوضاها كما في فنون أخرى.