عطر الخال

عطر الخال

عطر الخال

 صوت الإمارات -

عطر الخال

بقلم : محمد المخزنجي

وبعيدا عن سخرية الأبنودى اللاذعة والعميقة، أتصور لو أنه كان صاحب قرار فى هذا البلد لفرشه بساتين وحدائق وحقولا، كان سيستصلح حتى السبخات والأرض المالحة ويزرعها، بدراية وإرادة، كما استصلح وزرع قطعة أرضه على شاطئ القناة التى يخفق فى قلبها بيته الأبيض الأنيس.. كان سيزرع ظلا يكفى الجميع، خاصة من كائناته التى اكتوت بالقيظ والغيظ.

«الله يرضى عليك»، لازمة كانت تجرى على لسان الشاعر البديع عبدالرحمن الأبنودى، يختص بها من يحبهم، عندها يحس من يغمره الدعاء، بطمأنينة وسلام وراحة نفسية وروحية، كما لو كانت الدعوة قد استُجيبت على الفور، وراحت شآبيب رحمتها وحنوها تتنزل عليه بردا وسلاما مهما كان هجير الطقس وهجران رحمة الأيام.

والحقيقة أن مخلوقات الله المبدعة من البشر هم كائنات روحية وأنوار إيمانية فى عمق كينوناتهم، أكثر بكثير وأصدق بكثير من «دعاة» الشاشات والسبوبة وأقنعة اشتهاء السُلطة والتسلط.

فى آخر زيارة للشاعر فى مُقامه الأبيض الناصع وسط خضرة الله الظليلة على ضفة القناة، فى حضن بيوت الفلاحين فى قرية الضبعية، وبعد الغداء خرجنا من غرفة المكتبة والضيوف لنشرب الشاى فى الشرفة المُيمِّمة شطر مياه القناة التى يحجبها سور الحديقة، وإن كان النسيم المضمخ بأريج البحر يطير فوق السور ويأتينا مع رشفات الشاى، مرفرفا كأنما بفعل أجنحة عصافير، بفعل دورانه حول جذوع النخلات وفروع الأشجار التى زرعها الشاعر ورعاها بنفسه.

فى هذه الوداعة النقية والعفية، وقد كان الأبنودى بصحة مُستقرَّة، أسرَّ لى بأنه الآن راضٍ ويشكر الله لاطمئنانه على كل شىء سيتركه وراءه، والمكان الذى سيكون فيه، وأشار إلى قبة بيضاء تتراءى ناصعة على خلفية السماء ناعمة الزرقة، وأخذ يحكى برضا نفس وقوة روح، عن تفاصيل تحققت كلها بدقة، وكأنه يصف مشاهد تجرى أمامه!

الآن، تستدعى ذاكرة الشعر بعض أبيات من ملحمته البديعة «وجوه على الشط»، فتؤكد عندى ما قر فى يقينى عن روحية الوجود فى كيان هذا المبدع الكبير، وكأنها كانت تصف ما سيتجلى به صنيع الشاعر بعد أن يستأذن فى الغياب عن دنيانا الخشنة، إلى وجود أطيب وأحنى وأصفى. فهو على لسان أحد شخصيات ديوانه «وجوه على الشط»، يقول:

«كنا نشتغل اليوم كله

ونفر نلاقى حتة ضل

أحلى ما يعمل إنسان فى حياته يا ولدى

يزرع ضل

أحلى ما تحس

لما الضل اللى زرعته

تشوفه مرمى على وشوش الناس».

عجيب! ومثار العجب هنا فى أن الشاعر كان يغنى ما كان يراه ليس فى حاضر إنشاد القصيدة، بل يتراءى له بعد الرحيل الجميل، وما من رحيل مطمئن البال على الأحباء إلا رحيل جميل.

عجيب، ووجه العجب هنا أن الظل الذى زرعه الأبنودى، بالمعنى الحرفى، لا يكتفى بتظليل وشوش الناس رحمة بهم من شمس حارقة، بل هو ظل عاطر وحلو المذاق أيضا، فالأبنودى، ودون أن يخبر أحدا أوصى زوجته الوفية المُتفانية «أخت الرجال»، كما كان يصفها، أن تكون ثمار أشجار المانجو التى زرعها «للأحباب»، ومما يثلج صدرى أنه وضعنى ضمن الأحباب، وهذا ما يجعلنى أوقن أن دعاءه لى عند زيارته، أو عبر الهاتف «الله يرضى عليك» كان مؤثرا ومحسوسا إلى هذا الحد، لأنه كان من قلب صادق، قلبٍ سليم.

ولم يكن الصدق فى القول وحده، بل كان فى الصنيع الدنيوى أيضا، وأتذكر عندما كان الشاعر يأخذنى معه وهو يدور فى مناوبة الاطمئنان على أشجاره حول بيته الأبيض الأنيس، كان يتحسس جذوع الأشجار ويربت عليها كما لو كن بناته، يفرح بصحتهن والنضارة، ويهتف فى قلق حقيقى «لاه لاه لاه» عندما يكتشف وعكة ألمت بإحداهن، وكان موسوعة فى معرفة أساليب رعاية ووقاية أشجاره، وعلاجهن عندما يتطلب الأمر العلاج. وكان يعتبر جائحة مرض «سوس النخيل» مؤامرة عابرة للحدود ممن فُطِروا على كراهية هذا البلد وأهله، ويصفها وهى تخترق جذوع النخل كما لو كانت مِثقابا كهربيا لعينا يوغل فى الجذع المتين حتى يصل إلى اللب فينخره ويقطع انسياب النسغ للأعالى، فتعقم النخلة ولا تثمر. كان يكره سوس النخيل، والبشر السوس!


رسم حلمى التونى
يمضى عبد الرحمن الأبنودى وكأن فى ذهابه حضور، فها هى مكالمة هذا الوقت من كل صيف تجىء، صوت الأستاذة نهال كمال، تذكرنى «نصيبك من مانجة الخال»، فأقول لها بين حرج وامتنان «لكن»، فتفحمنى كما فى كل موسم «لكن دى وصية الخال»، فأسترجع ما ذكره الكاتب الجميل محمد توفيق فى كتابه الجميل «الخال»، متوقفا عند هذا اللقب الذى انفرد به الأبنودى بين محبيه وهم ــ دون مبالغة ــ بالملايين، وفى معظم البلدان العربية، يقول محمد توفيق «لنا أعمام كثيرون، ولكن ليس لنا سوى خال واحد فقط هو عبد الرحمن الأبنودى. والخال عندنا فى الصعيد مصدر رحمة، لا يطمع فى ميراث ولا يقاسم اليتامى ما ورثوه عن الأب ــ على حد تعبير الأديب جمال الغيطانى ــ فهو مصدر الرحمة والذود عنهم».

وردت هذه الكلمات فى كتاب «الخال» ضمن الفصل المعنون «أنا لو بقيت رئيس هاعيِّن أصحابى»! وهو شطرة بادئة فى أحد مربعاته الشعرية الساخرة التى نشرها إبان فترة حكم «الجماعة».

طبت حيا وحاضرا أيها الشاعر والإنسان البديع، عاطر الذكرى كما أريج أيامك الحلوة، وعبق فاكهتك الحلوة لا جِدال.

المصدر : جريدة المصري اليوم

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عطر الخال عطر الخال



GMT 13:47 2018 الأحد ,02 أيلول / سبتمبر

العودة للمدارس

GMT 13:47 2018 الأحد ,02 أيلول / سبتمبر

هلا.. بالمدارس

GMT 13:45 2018 الأحد ,02 أيلول / سبتمبر

لأمهات الشهداء.. ألف.. ألف تحية

GMT 13:44 2018 الأحد ,02 أيلول / سبتمبر

وقل "ليتني شمعة في الظلام"!

GMT 18:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 صوت الإمارات - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 18:59 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 صوت الإمارات - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 19:13 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 صوت الإمارات - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 صوت الإمارات - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 18:09 2018 الثلاثاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميمات مختلفة لسلاسل من الذهب رقيقة تزيدك أنوثة

GMT 11:26 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

الصين تتسلم الدفعة الأولى من صواريخ "أس-400" الروسية

GMT 16:28 2017 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

تسمية بافوس القبرصية عاصمة للثقافة الأوروبية

GMT 18:36 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 12:16 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

تجنّب أيّ فوضى وبلبلة في محيطك

GMT 17:14 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

بن راشد يُصدر مرسوماً بضم «مؤسسة الفيكتوري» إلى نادي دبي

GMT 01:20 2019 السبت ,20 تموز / يوليو

نبضات القلب المستقرة “تتنبأ” بخطر وفاتك!

GMT 02:41 2019 السبت ,05 كانون الثاني / يناير

"الفاتيكان" تجيز استئصال الرحم من المرأة لهذا السبب فقط

GMT 23:19 2013 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

"Gameloft" تستعرض لعبة "Asphalt"بهذا الصيف

GMT 13:12 2013 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

معرض الكتاب الكويتي منصة متميزة لأصدارات الشباب الأدبية

GMT 09:48 2013 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

الإذاعة المِصرية تعتمد خِطة احتفلات عيد "الأضحى"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates