بقلم : منى بوسمرة
حين وقّعت مصر معاهدة سلام في 1979 لم يتغير موقفها من القضية الفلسطينية، وحين وقع الأردن معاهدة مماثلة في 1994 لم يتغير موقفه من الحقوق الفلسطينية، وحين وقعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية أوسلو لم تتغير ثوابتها من استعادة الحقوق، والحال نفسه مع الإمارات، فتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل لا يعني بأي حال من الأحوال تخلياً أو تراجعاً عن الموقف المبدئي الثابت للإمارات في دعم الشعب الفلسطيني حتى ينال حقوقه كاملة.
وأصحاب الذاكرة القوية يعرفون مواقف الإمارات، وماذا قدمت لفلسطين منذ سبعينيات القرن الماضي إلى اليوم، سواء بالدعم المادي والإغاثي أو الدعم السياسي عبر قرارات القمم العربية أو قرارات مجلس الأمن الدولي، ولا زال هذا الموقف إلى اليوم غير قابل للمساومة؛ لأنه موقف مبدئي من قضية عادلة، لا زالت في مقدمة أجندتها السياسية.
وما يميز المعاهدة الإماراتية الإسرائيلية أنها لا تضع الإمارات تحت ضغوط البلد المجاور حدودياً مع إسرائيل، أي أن الإمارات لديها المساحة الأوسع في التحرك نحو تحقيق مصالحها وخدمة الأهداف العربية والحقوق الفلسطينية، بدليل أن الإطار العام للمعاهدة هو وقف الضم الإسرائيلي لنحو ثلث مساحة الضفة الغربية، بمعنى أن كل خطوة إماراتية للتقدم في هذا المسار تقابلها خطوة إسرائيلية تساويها في القيمة والمقدار، والتأسيس لعلاقة ندية لا تنازلات مجانية فيها، بل علاقات متدرّجة ومتوازية ومحسوبة تخدم الحق العربي مثلما تخدم مصالح الطرفين.
لقد تابعنا كل الآراء بالمعاهدة، ونقول للمؤيدين وكل المعارضين لها أو المتحفظين عليها، إنها قرار سيادي أولاً وأخيراً، تماماً كما يرغب المعارضون بأن تكون قراراتهم سيادية ومستقلة، والأمر الآخر أن المعاهدة لا تعني خروجاً عن مبادرة السلام العربية، بل بعثاً جديداً لها، وإعادة تثبيت لها على طاولة المفاوضات والضغط على إسرائيل للعودة إلى تلك الطاولة إذا كانت تريد مزيداً من فوائد السلام، أي أن المعاهدة لم تكن على حساب الفلسطينيين بل لحسابهم، فقضيتهم قضيتنا وقضية العرب جميعاً، والمعاهدة بوابة سلام عريضة لهم وللإسرائيليين للاستفادة من الظرف الجديد والزخم القوي الذي وفرته نحو استئناف المفاوضات على أساس حل الدولتين، وسيجد الطرفان الإمارات إلى جانبهما لتوفير كل ظرف ممكن نحو تحقيق سلام عادل وشامل، يرضى فيه الجانبان.
فاليوم نشهد زخماً جديداً ومختلفاً، وبإمكان أي مراقب أن يرصد الاندفاع الأمريكي والإسرائيلي، الذي يربطه البعض بأسباب انتخابية، ونتفهم ذلك التحليل المتسرع والمتهاوي، لكن المهم أننا في لحظة لن تتكرر ويجب استغلالها للتقدم نحو الأهداف العربية، خاصة أنها أعادت الالتزام الأمريكي تجاه قضايا المنطقة، وأظهرت مدى فاعليته في التأثير على إسرائيل ودفعها للاستفادة من السلام بالأثمان التي يستحقها.
بالنظر إلى 70 عاماً من الصراع، نجد أن العرب وإسرائيل حققوا عبر التفاوض ما فشلوا في تحقيقه بالحروب، فلا العرب حرروا الأرض، ولا إسرائيل نجحت في الانسجام مع المنطقة والقبول فيها وبقيت في حالة توتر أمني وتأهب عسكري منذ تأسيسها وإلى اليوم، كل ذلك على حساب تنمية المنطقة واستقرارها. لذلك فإن المعاهدة هي استقطاب لإسرائيل إلى مائدة التفاوض من جديد لتذوق حلاوة السلام، بدل مرارات الحروب، وإقناعها بأن ما يمكن أن تحققه لمصالحها بالسلام أكبر بكثير من الحروب، مقابل إعادة الحقوق لأصحابها. هي لحظة تاريخية تتشكّل على الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي العبور إليها، لينقلا المنطقة إلى عصر جديد، شرطه الإقرار بالحقوق، وجوهره الاستقرار، وهو أمر ممكن، بل أكيد، لن تصنعه إلا قوة السلام المتكافئ الذي وضعت الإمارات لبنته الأولى.