كان ذلك فيلما اميركيا قصيرا مسرحه مبنى الكابيتول في العاصمة الاميركية واشنطن دي. سي.
كان فيلما لا علاقة له بالأفلام الأميركية التقليدية الطويلة، التي انتجتها هوليوود منذ ما يزيد على قرن. لم ينتصر البطل كما العادة من اجل قضيّة محقّة يتصوّر الجمهور انّه يؤمن بها. كان بطل الفيلم فاشلا... كان بطلا من دون قضيّة. لم تكن لدى ترامب من قضيّة غير ترامب نفسه. لذلك انتهى الفيلم سريعا وطويت معه صفحة مظلمة فريدة من نوعها في تاريخ الحياة الديموقراطية الأميركية.
لم يترك دونالد ترامب خطأ الّا وارتكبه بحق الديموقراطية الأميركية وحقّ كل القيم التي قامت عليها القوة العظمى الوحيدة في العالم والتي قد لا تبقى القوّة العظمى الوحيدة بعد سنوات قليلة بسبب الصعود الصيني. سيطرح هذا الصعود تحدّيات من نوع جديد، طابع معظمها اقتصادي. ستكون الامتحان الاهمّ الذي ستواجهه إدارة جو بايدن على الصعيد الخارجي.
ليل الأربعاء الخميس الماضي، بدا دونالد ترامب وكأنّه يعيش في بلد آخر غير الولايات المتحدة الأميركية، بدا أقرب الى انقلابي في احدى دول العالم الثالث. اكتشف متأخّرا ان مثل هذا الأسلوب لا ينفع في بلد مثل أميركا. يشير ذلك الى ان دونالد ترامب لا يعرف اميركا. لا يعرف بلده الذي أمضى فيه أربع سنوات رئيسا. سارع الجمهوريون الى التنديد بما قام به الرئيس المنتهية ولايته. ندد نائب الرئيس مايك بنس بالمحتجين الذين استجابوا لدعوات ترامب الى الاعتراض على نتائج الانتخابات. قال بنس للمحتجين: "أنتم لم تفوزوا. العنف لا يفوز أبدا". أضاف بنس، في اثناء الاحتجاجات، أنه جرى تأمين مبنى الكونغرس. دعا مجلس الشيوخ إلى "العودة إلى العمل" لتأكيد انتخاب جو بايدن رئيسا. بدوره، قال ميتش ماكونيل رئيس الأكثرية الجمهورية في مجلس الشيوخ: "لن يتم إرهابنا وسنقوم بعملنا الليلة. ما حدث تمرد فاشل، والسلوك الإجرامي لن يسيطر على الكونغرس".
لولا سقوط أربعة قتلى، لكان الامر اقرب الى فيلم هزلي كان دونالد ترامب في غنى عن لعب دور البطولة فيه كاشفا كلّ عوراته دفعة واحدة. في النهاية، لم يستطع الرئيس الأميركي المنتهية ولايته اقناع نائبه بمخالفة الدستور. يعرف مايك بنس، قبل غيره، ان موافقته على نتائج الانتخابات مسألة ذات طابع بروتوكولي وليست من صلاحيات نائب الرئيس الذي يرأس مجلس الشيوخ حين تدعو الحاجة الى ذلك ويكون صوته حاسما في حال حصول تعادل في نتيجة التصويت. عندئذ، يكون صوته حاسما...
لم يتقبل دونالد ترامب خسارة الانتخابات الرئاسية. من لا يعرف كيف يخسر، لا يعرف كيف يربح يوما. هذا ما تؤكّده مرّة أخرى حملة التحريض التي شنّها دونالد ترامب والتي توجّت باقتحام أنصاره مبنى الكابيتول مستخدمين العنف. مثل هذا التصرّف يطرح أسئلة كثيرة. من بين الأسئلة، هل دونالد ترامب شخص طبيعي؟ من يظنّ، ولو في أحلامه، ان اقتحام الكابيتول، حيث مجلسا الشيوخ والنواب، يمكن ان يغيّر نتائج الانتخابات الأميركية، انّما يعاني من امراض نفسية في غاية الخطورة، خصوصا لجهة الانفصام عن الواقع.
يتمثّل الواقع في انّ جو بايدن فاز في انتخابات الرئاسة. الفارق بينه وبين دونالد ترامب كان كبيرا. تفوّق عليه بثمانية ملايين صوت. الاهمّ من ذلك كلّه، انّه تفوق عليه في المجمع الانتخابي الذي ينتخب الرئيس مباشرة.
من بين الأسئلة الأخرى، التي يطرحها التصرف الذي لا سابق له لرئيس أميركي خسر الانتخابات: من كان يرسم لدونالد ترامب سياسته المتماسكة تجاه ايران؟ من الواضح ان الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، الذي لم يستطع حتّى الحؤول دون خسارة الجمهوريين للأكثرية في مجلس الشيوخ، ليس شخصا في مستوى من يضع سياسة أميركية فعالة من نوع التي اتبعتها ادارته تجاه ايران. فبغض النظر عن كلّ الأخطاء التي ارتكبها دونالد ترامب، بما في ذلك تلك المتعلّقة بالاعتقاد بانه سيغيّر من شخصية الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون، وهي شخصيّة غير قابلة للتغيير، تظلّ سياسته الإيرانية النقطة الإيجابية الوحيدة في سجلّ المغادر للبيت الابيض.
هناك للمرّة الأولى إدارة أميركية تكشف ان المؤسسة العسكرية والأمنية في الولايات المتحدة تعرف تماما، وبادقّ التفاصيل، ما هو النظام الإيراني القائم منذ العام 1979. لا تزال الخطب المتكررة لدونالد ترامب مرجعية صالحة لفهم ايران والنظام فيها وخطورة مشروعها التوسّعي الذي بدأ بالاستخفاف بالولايات المتحدة بخطف دبلوماسييها في طهران عام 1979 لمدّة 444 يوما.
وضع دونالد ترامب حدّا لهذا الاستخفاف وكشف ان "الجمهورية الإسلامية" التي اسّسها آية الله الخميني ليست سوى نمر ورق متى تطرح جدّيا مسألة الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة. الدليل على ذلك، ان ايران ردّت على اغتيال الادارة الأميركية لقاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الإيراني... في لبنان والعراق واليمن. لم يكن قصفها لقاعدة عين الأسد الأميركية في العراق سوى نوع من الردّ الفولكلوري هدفه الاستهلاك الداخلي في ايران او في أوساط الميليشيات المذهبيّة التابعة لها.
اساء دونالد ترامب الى نفسه والى بلده حيث كان ردّ الفعل حازما وحاسما. رذلت الولايات المتحدة دونالد ترامب. تبيّن انّ هناك أكثرية أميركية ترفض ايّ نوع من الانقلابات وايّ مس بالدستور والأعراف والقوانين. إنّها أكثرية جمهورية واكثرية ديموقراطية في آن. امّا الرعاع الذين اقتحموا مبنى الكابيتول، فهؤلاء سيظلّون هامشيين، حتّى لو وجد من يقول ان 74 مليون أميركي صوتوا لدونالد ترامب. هؤلاء صوتوا في معظمهم لمن كانوا يعتبرونه رئيسا، غير تقليدي، يحترم الدستور والقانون والاعراف، فضلا عن القيم الأميركية المتعارف عليها.
لا مستقبل سياسيا لدونالد ترامب الذي بات يواجه احتمال عزله قبل نهاية ولايته في العشرين من الشهر الجاري. اعتقد انّ الانتخابات لا يمكن تخرجه من البيت الأبيض وانّ اللعبة الديموقراطية عاجزة عن هزيمته. سيضطر الى الخروج من مقرّ الرئاسة الأميركية وسيظل ما فعله درسا لكلّ سياسي أميركي تسوّله نفسه التمرّد على اللعبة الديموقراطية.
من انتصر ليل الأربعاء الخميس، كان دولة المؤسسات. هذه المؤسسات هي قوّة اميركا وهي التي ستمنع أي سياسي أميركي من تكرار حماقة من نوع تلك التي ارتكبها دونالد ترامب. لم يعرف دونالد ترامب اميركا. انتهى الامر بانّ اميركا باتت لا تعرفه. كان مجرّد فيلم أميركي قصير عاد بعده كلّ شيء الى وضعه الطبيعي بعد معالجة سريعة لشخص غير طبيعي.