هناك سؤال يطرح نفسه بحدّة في هذه الايّام: ما الذي جعل تركيا تقدم على تصرفات غير طبيعية وتحوّل نفسها الى طرف تتسم سياسته بالعدوانية في كلّ مكان في المنطقة وحتّى مع الدول الأوروبية؟
كان في استطاعة تركيا اعتماد سياسة "صفر مشاكل" مع محيطها، بما في ذلك اليونان، كما كان يقول وزير الخارجية السابق احمد داود اوغلو بدل ان تكون شبيهة بايران، أي بدولة تبحث عن المشاكل خارج حدودها. لعلّ آخر دليل على العدوانية التركية التحرّش بالعراق، وهو تحرّش أدّى الى توتر، لا مبرّر له، في العلاقة بين البلدين بعد قتل الجهات العسكرية التركية ضابطين عراقيين كبيرين احدهما برتبة عميد والآخر برتبة عقيد.
كان في استطاعة تركيا ان تكون حكما في منطقة في حاجة الى مرجعية عاقلة، بعيدة كلّ البعد عن التهوّر قبل أي شيء آخر.
يكمن الجواب الذي يفسّر كل هذه العدوانية، في ان تركيا تحوّلت الى رجل المنطقة المريض، تماما كما كانت عليه الدولة العثمانية في المرحلة التي سبقت انهيارها في بداية عشرينات القرن الماضي. من أوصل تركيا الى ما وصلت اليه شخص اسمه رجب طيّب اردوغان اخذ على عاتقه الترويج لمشروع الاخوان المسلمين بدل السير في طريق الاعتدال والتعقّل بعيدا عن أوهام لا يمكن الّا ان تبقى اوهاما.
لا يمكن لتطلعات اردوغان وطموحاته، اذا وضعنا جانبا التدخل التركي في سوريا، ان تكون اكثر من سلسلة من المغامرات التي لا افق لها. هذا يعود بكل بساطة الى سبب واحد. لا تمتلك تركيا القاعدة الاقتصادية التي تسمح لها بلعب دور يفوق حجمها وذلك على الرغم من كلّ الدعم المالي القطري الذي لا يمكن ان يستمرّ الى ما لا نهاية.
لعب الموقع الجغرافي دورا في تمكين تركيا، طوال سنوات الحرب الباردة، من لعب دور رأس الحربة في الدفاع عن المصالح الغربية في المنطقة. كانت تركيا، عضو حلف الأطلسي، قوة ردع في مواجهة الاتحاد السوفياتي على غير جبهة. من يتذكّر انّ سحب الصواريخ الأميركية من تركيا كان جزءا من التسوية التي أدت الى تسوية بين موسكو وواشنطن سببتها الصواريخ السوفياتية الموجودة في كوبا خريف العام 1962؟
كان سحب الصواريخ الأميركية من تركيا عاملا ادّى الى تراجع الاتحاد السوفياتي الذي سحب صواريخه من كوبا. في الواقع، جاء سحب الصواريخ الأميركية من تركيا بمثابة انقاذ لماء الوجه للكرملين في وقت ساد العالم خوف من حرب نووية كاد ان يتسبب بها قرار الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف القاضي بنقل صواريخ سوفياتية سرّا الى كوبا كي تكون على بعد نحو 120 كيلومترا من الأراضي الأميركية.
هذا لا يبرر لعب تركيا في السنة 2020 دورا يفوق حجمها وتجاوزها لحدود معيّنة، وصلت الى ليبيا ونفطها والتحرش بالعراق المنشغل بإيجاد حلول لمشاكله الداخلية الكثيرة. فالعراق في ظلّ حكومة مصطفى الكاظمي وضع مصالحه فوق أي مصلحة اخر ورفع شعار "العراق اوّلا".
ترفض تركيا، في الواقع، التعلّم من تجربة فشل المشروع التوسّعي الإيراني الذي في أساسه الهروب المستمر الى خارج حدود "الجمهورية الإسلامية" التي اسّسها آية الله الخميني في العام 1979 من اجل التغطية على الفشل الداخلي على كلّ صعيد.
لعبت تركيا دورا مهمّا على غير صعيد ابان الحرب الباردة. الاهمّ من ذلك كلّه، انّها استطاعت لاحقا التصالح مع نفسها في مرحلة معيّنة والقيام بإصلاحات داخلية في العمق اعادت الحيوية الى اقتصادها. بدأت الاصلاحات في عهد تورغوت اوزال وصولا الى عهد رجب طيّب اردوغان الذي بشّر في بدايته بالخير، على العكس من نهايته التي جعلت من تركيا رأس حربة للمشروع الاخواني، وهو مشروع لا يمتلك أي مقوّمات تسمح ببناء دولة حديثة.
ليس في هذا المشروع الاخواني، الذي كاد ان يقضي على مصر لولا الثورة الشعبية في حزيران – يونيو 2013، سوى شبق ليس بعده شبق الى السلطة. الدليل على ذلك ما آل اليه السودان في عهد الاخوان، بين 1989 و2019 وما تعانيه غزّة التي سقطت في شركهم صيف العام 2007 وباتت سجنا كبيرا، بلا سقف، لاهلها. زايد اردوغان في غزّة. ماذا كانت نتيجة مزايداته غير انّ الحصار الإسرائيلي مستمرّ ولا احد يهتمّ بما يفعله؟
من بلد كان في استطاعته ان يكون نموذجا للتطور في المنطقة، سياسيا واقتصاديا وحضاريا وارضا للتسامح في ظلّ اسلام معتدل، تحوّلت تركيا بسبب رجل واحد الى حالة مرضية. سارت تركيا في عهد رجب طيب اردوغان في اتجاه التحوّل الى نظام متخلّف آخر في احدى دول العالم الثالث. صارت تركيا دولة يتحكّم بها شخص واحد في جيبه كلّ مفاتيح السلطة. لم يعد في تركيا – رجب طيب اردوغان من مكان سوى للموظف المطيع الذي يضع نفسه في خدمة رئيس الجمهورية الذي انفض عنه كلّ شركائه السابقين في حزب التنمية والعدالة مثل عبدالله غول او احمد داود اوغلو الذي أسس حزبا جديدا.
وضع رجب طيب اردوغان تركيا في خدمة المشروع الاخواني. وجد لنفسه تغطية ذات طابع شعبوي من نوع الدعوة الى استعادة امجاد الإمبراطورية العثمانية... او تحويل آيا صوفيا الى مسجد بما يشكل انقلابا على المبادئ التي قامت عليها جمهورية اتاتورك.
عاجلا ام آجلا، لا يمكن لتركيا الّا ان تستعيد حجمها الحقيقي ودورها الطبيعي في المنطقة بعيدا عن الأوهام التي جعلت اردوغان يطمح الى بلوغ ليبيا مستخدما مرتزقة سوريين ومعتمدا على الخلافات الأوروبية – الأوروبية، خصوصا بين فرنسا وإيطاليا.
ما نراه اليوم هو استعادة تركية لتجربة فاشلة اسمها ايران ما بعد 1979. يمكن لهذه التجربة ان تدمّر وتخرّب، لكنه لا يمكنها البناء. ما يبعث على الامل في استعادة تركيا دورا اكثر عقلانية انّ مشكلتها الحالية هي مشكلة رجل يعتقد انّ تصدير الازمات الداخلية الى خارج الحدود التركية يحلّ له مشاكله الداخلية، بما في ذلك داخل حزبه. لو كان ذلك ممكنا لما كان الاتحاد السوفياتي انهار في بداية 1992 ولما كانت ايران تتخبط منذ أربعين عاما في ازمة جعلت اكثر من نصف شعبها يعيش تحت خط الفقر.