لم يكن الجنرال برنت سكوكروفت الذي توفّى قبل ايّام عن 95 عاما مجرّد عسكري أميركي خدم طويلا في سلاح الجو، بل كان سياسيا من طراز استثنائي ترك بصماته على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، خصوصا عندما كان مستشارا للامن القومي في عهدي جيرالد فورد وجورج بوش الاب.
كان الشخص الوحيد الذي شغل هذا الموقع في ادارتين اميركيتين مختلفتين. كان سكوكروفت يعرف العالم عن ظهر قلب بعدما درس التاريخ، مركّزا على تاريخ روسيا. كان يؤمن بأهمّية التاريخ في صنع العلاقات الدولية، كما كان يؤمن بقوة اميركا وقدرتها على جعل العالم اكثر امانا. لكنّه كان يؤمن في الوقت ذاته بحدود هذه القوّة وبضرورة الاستعانة باصدقاء اميركا في العالم والعمل من خلال الحلفاء. لم يكتف يوما بان يكون عسكريا، بل تابع بعد تخرّجه من كلّية ويست بوينت في العام 1947 دراسته الجامعية وحصل على دكتوراه من جامعة كولومبيا المشهورة في العام 1967 بعد تخصّص في العلاقات الدولية.
في التاريخ الأميركي الحديث، لعب عدد من كبار العسكريين ادوارا على الصعيد الوطني. يمكن الكلام عن الجنرال دوايت ايزنهاور الذي اصبح رئيسا لاميركا لولايتين في خمسينات القرن الماضي. كذلك، يمكن الحديث عن الجنرال جورج مارشال وزير الخارجية الذي ارتبط اسمه بإعادة اعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، عبر مساعدات اميركية. لا يزال "مشروع مارشال"، رمزا لإعادة اعمار أوروبا بما في ذلك المانيا، في مرحلة ما بعد العام 1945. لا يزال "مشروع مارشال" مثالا على السياسة الأميركية البناءة القائمة على تحرير الشعوب وتمكينها من بناء اقتصاد منتج بدل استعبادها. لا يزال "مشروع مارشال" مثالا يحتذى به على صعيد المقارنة بين النجاح الأميركي والفشل السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية. أصبحت أوروبا الغربية مجموعة من الدول المزدهرة بفضل دعم الولايات المتحدة، فيما أصبحت دول أوروبا الشرقية دولا بائسة وفقيرة بعد سقوطها تحت الهيمنة السوفياتية ونظام الحزب الواحد.
لم يصل الجنرال سكوكروفت الى اكثر من موقع مستشار الامن القومي، لكنّه استطاع تحديد دور مستشار الامن القومي وتحويل هذا الدور الى دور مهمّ، دور الشريك في اتخاذ القرارات الكبيرة، خصوصا في عهد بوش الاب. في هذا العهد، كان هناك ثلاثي يمتلك القرار ويحدّد السياسة الأميركية. كان هناك الرئيس وكان هناك وزير الخارجية جيمس بايكر وكان هناك مستشار الامن القومي الجنرال سكوكروفت الذي آمن بـ"الواقعية المستنيرة".
لم يبق جورج بوش الاب في البيت الأبيض سوى لولاية واحدة من اربع سنوات كان فيها مستشار الامن القومي لاعبا أساسيا في رسم السياسة الدولية للإدارة. يعود ذلك الى ما كان يمتلكه الجنرال سكوكروفت من علم ومعرفة وخبرة في شؤون العالم. مكّنته هذه الصفات من تمرير مرحلة انتهاء الحرب الباردة باقلّ مقدار ممكن من الخسائر وبطريقة سلسة. بدأت مرحلة انتهاء الحرب الباردة بسقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1989 وإعادة توحيد المانيا في تشرين الاوّل – أكتوبر 1990 وصولا الى انهيار الاتحاد السوفياتي رسميا في بداية العام 1992.
لعب الرجل دورا محوريا في جعل إدارة بوش الاب تنجح خارجيا في ظروف في غاية الصعوبة والتعقيد. استطاعت هذه الإدارة تشكيل التحالف الدولي الذي اخرج الجيش العراقي من الكويت في شباط – فبراير 1991.
بالعودة الى الاحداث التي ترافقت مع احتلال صدّام حسين للكويت في الثاني من آب – أغسطس 1990 واعتبارها المحافظة العراقية الرقم 19، في الامكان ملاحظة سعي إدارة بوش الاب الى تفادي الحرب. بذلت الإدارة جهودا كبيرة لاقناع صدّام حسين بالانسحاب من الكويت من دون شروط. لكنّ الرئيس العراقي الراحل الذي لم يكن على علم بما يدور في المنطقة والعالم بقي يظنّ ان اميركا لن تدخل في حرب مع العراق. بقي على قناعته، على الرغم من حشد ما يزيد على نصف مليون جندي أميركي ومن دول مختلفة في الأراضي السعودية.
لعب الجنرال سكوكروفت في تلك المرحلة دورا مهمّا يكشف مدى معرفته بشؤون المنطقة. حال دون دخول الجيش الأميركي بغداد بعد إخراجه العراقيين من الكويت. كان يعرف تماما ان ايران ستكون المستفيد الاوّل من ذلك. توقف الجيش الأميركي عند حدود الكويت وسمح لصدّام بمواجهة التمرّد الذي حصل وقتذاك بدعم إيراني من اجل اسقاطه.
اكثر من ذلك، لعب سكوكروفت دورا في غاية الاهمّية على صعيد منع إسرائيل من التدخل في حرب تحرير الكويت. كان الجنرال سكوكروفت من المنادين بوضع إسرائيل في حجمها الحقيقي. في عهد بوش الاب، أرسلت اميركا بطاريات "باتريوت" الى إسرائيل لحمايتها من صواريخ "سكود" عراقية. أرغمت حكومة اسحق شامير على الرضوخ لما تريده الإدارة الأميركية بعدما كانت تلك الحكومة تصرّ على حق إسرائيل وحدها في التصدي للصواريخ العراقية من دون وجود ايّ جندي أميركي في أراضيها.
ذهبت إدارة بوش الاب الى ابعد من ذلك عندما فرضت على حكومة شامير المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام في خريف العام 1991 استنادا الى صيغة الأرض في مقابل السلام...
في عهد تلك الإدارة، التي كان فيها الجنرال سكوكروفت لاعبا محوريا، مارست الولايات المتحدة سياسة تذكّر بتلك التي مارسها دوايت ايزنهاور الذي اجبر بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على وقف الحرب مع مصر، وهي حرب تسبّب بها تأميم جمال عبدالناصر لقناة السويس في العام 1956. ابلغ ايزنهاور وقتذاك كلّ من يعنيه الامر ان ليس مسموحا لبريطانيا وفرنسا وإسرائيل خوض حروب من دون اذن أميركي ومن خلف ظهر واشنطن...
لم يكن الجنرال سكوكروفت سياسيا اميركيا عاديا بمقدار ما انّ رحيله هو رحيل رجل كان اميركيا في الدرجة الأولى، كما كان يرمز الى آخر إدارة في واشنطن تؤمن بالدور القيادي للولايات المتحدة وبالقدرة على جعل إسرائيل تلتزم حدودا معيّنة ليس مسموحا لها بتجاوزها.
لم يستطع جورج بوش الاب الحصول على ولاية رئاسة ثانية. خانه الوضع الاقتصادي الذي لعب دورا في سقوطه امام بيل كلينتون. لم تنفع كلّ النجاحات التي حققتها سياسته الخارجية بفضل جيمس بايكر وبرنت سكوكروفت. لكن ذلك لم يحل دون ان ينزل اسم مستشار الامن القومي في كتب التاريخ كاحد ابرز الذين استطاعوا المساهمة في صنع سياسة أميركية مستقلّة وواقعية تعكس فهما عميقا للعالم والتوازنات فيه. كان احد آخر السياسيين الاميركيين الذين فهموا العالم جيّدا!