جاء علي أكبر أحمديان الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني إلى بغداد والتقى رئيس الوزراء محمّد شيّاع السوداني وكأن شيئاً لم يكن. كأن إيران لم تطلق صواريخ في اتجاه مطار أربيل قبل فترة قصيرة ولم تقتل مدنيين عراقيين آمنين كانوا في منازلهم بحجة أنّها تستهدف مواقع لجهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد).
لم يجد رئيس الوزراء العراقي ما يبرّر فيه تراجعات العراق أمام إيران سوى كلام عام يقوله أمام المسؤول الإيراني.
تصرّف السوداني كما لو أن العالم لا يعرف طبيعة العلاقات التي باتت تربط بين طهران وبغداد منذ تشكيل الحكومة الحاليّة في ضوء خروج مقتدى الصدر، صاحب أكبر كتلة برلمانية من المشهد السياسي ورضوخه لما تريده «الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران.
قال السوداني أمام أحمديان، حسب بيان للمكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي، أنّه «أبدى حرص بلاده على مبدأ حسن الجوار وإقامة أفضل العلاقات مع دول المنطقة والعالم»، لكنه شدد على أن بلاده «لا تجامل على حساب سيادة العراق وأمنه».
في المقابل، أكد أحمديان «التزام إيران أمن العراق واستقراره، وحرصها على مواصلة العمل طبقا للاتفاق الأمني المشترك بين البلدين».
قبل كلّ شيء، لا حاجة للعراق إلى قول أي كلام منمق من أي نوع مع إيران، خصوصاً منذ وضعت الأخيرة يدها على البلد كلّه ومنذ صار «الحشد الشعبي» السلطة الحقيقيّة في العراق وصولاً إلى اعتبار المسؤولين فيه أنّهم يمثلون «الدولة» العراقيّة.
يؤكد ذلك عدم وجود أي شكوى لدى مجلس الأمن عندما اعتدت إيران على مطار أربيل وعلى مواقع مدنيّة.
أمّا بالنسبة إلى إيران، فإنّ لدى «الجمهوريّة الإسلاميّة» تفسيراً خاصاً بها للاتفاق المشترك العراقي - الإيراني، تأخذ منه ما تشاء وترفض ما تشاء وتبرّر ما تقوم به، خصوصاً عندما تستهدف كردستان العراق.
يستطيع كلّ من السوداني وأحمديان الخروج بكلّ المجاملات الممكنة. تبقى حقيقة واحدة يفرضها الواقع القائم وهي حقيقة أن المسؤول الإيراني موجود في بغداد في زيارة لعقر الدار ولا شيء آخر غير ذلك.
فوق ذلك كلّه، تجد «الجمهوريّة الإسلاميّة» طبيعياً شنّ مجموعات مسلّحة عراقيّة، منضوية تحت لافتة اسمها «الحشد الشعبي»، لهجمات على قواعد أميركية كما حصل أخيراً عند الحدود السوريّة الأردنيّة... أو حشد قوات على الحدود العراقيّة - الأردنيّة بحجة حرب غزّة.
ثمّة واقع لم يعد في الإمكان تجاهله. يتمثّل في أن الحكومة العراقيّة تقول ما لا تريد الحكومة الإيرانيّة قوله. لم يعد العراق سوى غطاء للممارسات الإيرانيّة في المنطقة إن على صعيد التعاطي مع الأكراد أو الضغط على الأردن... أو العمل من أجل خروج أميركا من المنطقة عسكرياً.
بكلام أوضح، تُفهم إيران الولايات المتحدة، بشكل يومي، أنّها تعمل عندها وأنّها المنتصر الوحيد في الحرب التي شنتها أميركا من أجل إسقاط نظام صدّام حسين قبل 21 عاماً.
تكمن معضلة أميركا، بغض النظر عن الطريقة التي ستنتهي بها حرب غزّة، في التمدّد الإيراني في العراق وفي أماكن أخرى. وضعت «الجمهوريّة الإسلاميّة» يدها على بلد مهمّ اسمه العراق فيما فشل المشروع الأميركي في هذا البلد. لم تدرك أميركا منذ العام 1979 معنى الخلل في التوازن بين العراق وإيران. لم تتنبه يوماً إلى البعد الذي سيترتب على تسليم العراق إلى إيران على صحن من فضّة في العام 2003.
لم تتنبّه إلى اليوم لمعنى وجود خلل في التوازن الإقليمي لمصلحة المشروع التوسعي الإيراني القائم على تفتيت الدول العربيّة الواحدة تلو الأخرى بدءاً بالعراق.
عندما يزور مسؤول إيراني في مستوى علي أكبر أحمديان بغداد في هذه الأيام بالذات، يتأكّد نجاح المشروع الإيراني في العراق وفشل المشروع الأميركي. في أساس هذا الفشل الجهل الأميركي في شؤون المنطقة من جهة وغياب الدور القيادي للولايات المتحدة من جهة أخرى.
ليس العراق وحده الذي يعاني من هذا الجهل الأميركي الذي ظهر بوضوح منذ قيام الثورة الشعبيّة في سورية في مارس من العام 2011 ومنذ وضع الحوثيون، الذين ليسوا سوى أداة إيرانيّة، يدهم على صنعاء في سبتمبر 2014.
لا وجود، إلى يومنا، لإدراك أميركي لمعنى وجود كيان سياسي إيراني في شبه الجزيرة العربيّة. استطاعت إيران تحويل هذا الكيان إلى قاعدة عسكريّة فيها صواريخ بالستية وطائرات مسيّرة. لا تهدّد هذه القاعدة ذات الحدود الطويلة مع المملكة العربية السعوديّة كلّ دولة من دول الخليج العربي فحسب، بل صارت تشكل أيضاً تهديداً لحرية الملاحة في البحر الأحمر، وهو البحر المؤدي إلى قناة السويس.
من العراق، إلى سورية، وصولاً إلى لبنان، يتقدّم المشروع التوسعي الإيراني بخطى ثابتة من دون إدراك أميركي لخطورة الوضع اليمني. ستضع حرب غزّة أوزارها في المستقبل القريب. سيحصل من دون شكّ تغيير كبير في إسرائيل نفسها، لكن ماذا عن انحاء أخرى في المنطقة، في مقدّمها العراق؟
يبدو مشروعاً التساؤل هل قدر العراق أن يصبح مستعمرة إيرانيّة في ضوء التجاهل الأميركي لخطورة ما حذر منه مطلع ثمانينيات القرن الماضي الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران. كان ذلك في أثناء الحرب التي خاضها العراق مع إيران، وهي حرب استمرت ثماني سنوات.
وقتذاك برّر ميتران «تأجير» طائرات فرنسية من طراز «سوبر ايتندار» للعراق وتزويده صواريخ «إكزوسيت» المضادة للسفن بخشيته من انتصار إيراني يؤدي إلى سقوط الحدود بين العراق وإيران. كان ميتران يعرف معنى سقوط هذه الحدود «التي ليست حدوداً بين دولتين، بل بين حضارتين كبيرتين هما الحضارة الفارسيّة والحضارة العربيّة» وانعكاس ذلك على المنطقة كلّها.
سقطت هذه الحدود. يوجد حالياً خلل على صعيد المنطقة كلّها. إيران تعرف ما الذي تريده. هل في واشنطن من يمتلك مشروعاً واضحاً للمنطقة، مع استمرار حرب غزّة... أو بعد توقّفها؟