في ذكرى حرب تشرين أو حرب أكتوبر للعام 1973، ثمة مشهدان لا يغيبان عن البال، إلّا إذا كان المواطن العربي قد اختار العيش في الوهم. المشهد الأوّل مصري والآخر سوري. إنّهما مشهدان يعبران عن عقلين مختلفين كلّيا لا مجال لأي التقاء بينهما، تماما مثلما لا يمكن للمنطق الالتقاء مع العبث، عبث من نوع توقيع اتفاق القاهرة بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، في العام 1969، من منطلق أنّ مثل هذا الاتفاق – الكارثة سيسمح بتحرير فلسطين!
ماذا حصل في مصر بعد نصف قرن إلّا سنة على حرب أكتوبر وماذا حلّ بسوريا بعد نصف قرن إلّا سنة على حرب تشرين؟ يعبّر هذا السؤال عن استحالة التوفيق بين منطق مرتبط بالواقع ومنطق آخر يرفض الاعتراف بهذا الواقع والتعاطي معه. هذا منطق يهرب من الواقع، كون الدفاع عن النظام، في ظلّ الشعارات البعثية الفارغة والكريهة، أهمّ من استعادة الأرض.
استنادا إلى الواقع القائم، استعادت مصر كلّ أراضيها المحتلّة، بما في ذلك حقول النفط والغاز في سيناء، فيما لا تزال هضبة الجولان السورية تحت احتلال إسرائيل. تحوّلت هضبة الجولان مادة تصلح للمتاجرة بها سياسيّا بدل السعي لاستعادتها.
بعد توقيع معاهدة السلام المصريّة – الإسرائيليّة في آذار – مارس من العام 1979، وحتّى قبل ذلك، جرى الترويج لمقولة لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سوريا. تبيّن مع مرور الوقت أنّ الصحيح في هذه المقولة أن لا حرب انطلاقا من سوريا كون سوريا، كنظام وليس كشعب، تريد حروبا محدودة يكون مسرحها لبنان الذي شاء النظام تحويله مزرعة لها. بقي على هذا النحو حتّى العام 2005، حين ارتدت سياسة النظام السوري على أصحابها.
بعد اغتيال رفيق الحريري في عملية معروف تماما من يقف خلفها، في ضوء إصدار المحكمة الدوليّة الخاصة بلبنان حكمها الواضح، وبعدما تبيّن أن النظام السوري تولّى تغطية الجريمة، خرج الجيش السوري والأجهزة الأمنيّة السورية من لبنان وحلّ مكانهما الاحتلال الإيراني.
هذا ما فعله النظام السوري في لبنان، وهو ما فعله أيضا في سوريا الموجودة حاليا تحت خمسة احتلالات. الأكيد أن النظام السوري لا يريد رؤية الواقع، علما أنّ الطفل الصغير يعرف ذلك ويعرف أيضا أن بشّار الأسد صار مع نظامه رهينة إيرانيّة لا أكثر.
في خلال 49 عاما، تبيّن أن النظام السوري لم يسع يوما لاستعادة أرضه. وظّف حرب تشرين من أجل وضع يده على لبنان والإمساك بالورقة الفلسطينيّة. فوّت على الفلسطينيين فرصة بعد أخرى مستفيدا من وقوع ياسر عرفات في فخ الوحول اللبنانيّة والرمال المتحركة والحسابات الطائفيّة وزواريب بيروت وأزقتها بدل استيعاب أن لا مصلحة له بذلك.
يبقى الدرس الأهمّ الذي يمكن استخلاصه من مرحلة ما بعد حرب تشرين، أو حرب أكتوبر، تخلّص معظم العرب من كابوس ابتزاز حزب البعث الذي كان يحكم سوريا والعراق.
انتهى حزب البعث العراقي وانتهى حزب البعث السوري. انتهى كلّ من الحزبين على طريقته. سقط نظام صدّام حسين بعد حرب أميركيّة على العراق في العام 2003، لكنّ سقوطه الحقيقي كان في العام 1990 عندما اجتاح الكويت… وعندما لم يدرك معنى الإقدام على مثل هذه المغامرة في عالم ما بعد سقوط جدار برلين.
المفارقة أنّ النظامين البعثيين في العراق وسوريا لم يلتقيا يوما إلّا عندما كان مطلوبا إلحاق الخراب في المنطقة. يؤكّد ذلك المصالحة التي تمت بينهما في مرحلة ما بعد زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس وإلقاء خطابه في الكنيست.
لم يلتق البعثان العراقي والسوري سوى على الباطل. دفعا الدول العربيّة كلّها إلى عقد مؤتمر قمة في بغداد في العام 1978 من أجل الوقوف في وجه أنور السادات تمهيدا لمقاطعة مصر ونقل مقرّ جامعة الدول العربيّة من القاهرة إلى تونس. فجأة أوقف النظام العراقي برأسيه، وقتذاك، وهما أحمد حسن البكر وصدّام حسين، حملته على البعث السوري بحجة موافقته على القرارين 242 و338 الصادرين عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. صارت “الخيانة” بالنسبة إلى البكر وصدّام وجهة نظر… ما دام المطلوب التصدي لأنور السادات ولمصر ودورها الإقليمي.
استطاعت مصر تجاوز كلّ العقبات التي اعترضتها، بما في ذلك التخلّص من حكم الإخوان المسلمين. كان ذلك بفضل تركة أنور السادات وليس لاعتبارات أخرى، علما أنّه يمكن أن يكون هناك مأخذ وحيد على السادات. يتمثل هذا المأخذ في اعتماده على الإخوان والتيّار الإسلامي في مرحلة معينة من حكمه الذي بدأ في العام 1970 وانتهى باغتياله في السادس من تشرين الأوّل – أكتوبر 1981 بواسطة إسلاميين متطرّفين!
في العام 2022، لم يعد في استطاعة النظام في سوريا تهديد أحد، خصوصا دول الخليج العربي. فقد قدرته على الابتزاز كما حصل بعد زيارة السادات إلى القدس وتوقيع مصر معاهدة سلام في العام 1979. ما يؤكّد ذلك اضطرار النظام السوري إلى التراجع عن الاستعانة بالجزائر للعودة إلى جامعة الدول العربيّة.
يختزل وضعا مصر وسوريا مرحلة طويلة من التاريخ العربي الحديث. استطاعت مصر الخروج من هزيمة 1967 فيما فشلت سوريا في ذلك.
منذ 1967 إلى اليوم استثمر النظام السوري، وهو نظام أقلّوي يغطي نفسه بشعارات فارغة من نوع شعارات حزب البعث، في احتلال الجولان. استثمرت مصر في السلام. وقفت في وجه إسرائيل عندما دعت الحاجة إلى ذلك. تعمل حاليا، على الرغم من كلّ الصعوبات الاقتصادية على تحسين أوضاعها الداخليّة في عالم يتغيّر بسرعة. في المقابل، من سوء حظ سوريا أنّها استثمرت في بقاء الجولان تحت الاحتلال. ستكون مصر قادرة على تجاوز الصعوبات التي تواجهها. ستدفع سوريا ثمن الرهان على الابتزاز والاستثمار في استمرار الاحتلال.
من يبتز من في المرحلة الراهنة؟ أليست إيران من تبتز سوريا؟