بقلم - خيرالله خيرالله
من أسوأ ما حصل وما زال يحصل في الدول العربيّة، التي تدّعي انّها جمهوريات ديموقراطية، ذلك الإصرار على بقاء الرئيس في موقعه مدى الحياة. ينسى الرئيس الذي وصل الى السلطة، بطريقة ما سليمة او غير سليمة، انّه يعيش في ظلّ نظام جمهوري اوصله الى موقعه وليس في نظام ملكي يمتلك، في معظم الأحيان، طبيعة خاصة به فضلا عن شرعية تاريخية.
مناسبة هذا الكلام اتجاه رئيس السلطة الوطنية محمود عبّاس (أبو مازن) الى ان يكون مرشّحا في الانتخابات الرئاسية الفلسطينية المقرّرة الصيف المقبل وذلك على الرغم من انّه في السلطة منذ العام 2005... ومن انّه تجاوز الـ85 من العمر.
الاهمّ من ذلك كلّه، ليس لدى "أبو مازن"، على الرغم من كلّ التقدير والاحترام لتاريخه، خصوصا لدوره في الوصول الى اتفاق أوسلو، من انجاز يستطيع ان يفتخر به طوال 16 عاما في السلطة.
قد يكون الاستثناء، ما حقّقه من نجاح في إيجاد فراغ ليس بعده فراغ في مؤسسة الرئاسة وفي السفارات الفلسطينية المنتشرة في كلّ انحاء العالم. الأكيد، انّ في استطاعة السلطة الوطنيّة التذرّع بنقص المال لتبرير التدهور الذي أصاب التمثيل الخارجي. لكن الأكيد أيضا ان الكفاءات الفلسطينية موجودة وهناك شخصيات كان يمكن ان تلعب دورها في بقاء فلسطين موجودة بشكل لائق في هذه العاصمة العربيّة او تلك او في باريس او لندن او برلين... او في واشنطن نفسها حيث ليس مستبعدا ان تسمح إدارة جو بايدن بإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة الأميركية قريبا. من يتذكّر اسم آخر سفير لفلسطين في واشنطن او في الأمم المتحدة (نيويورك) في عهد "أبو مازن"؟
انضمّ "أبو مازن" الى نادي الرؤساء العرب الديكتاتوريين من ذوي الطبيعة الانقلابية، علما انّه كان مفترضا ان يكون افضل من ذلك بكثير. قد يكون ذلك مفهوما، نظرا الى انّ شخصا عظيما مثل "المجاهد الأكبر" الرئيس الحبيب بورقيبة لم يشذّ عن هذه القاعدة على الرغم من انّه كان رجلا استثنائيا، بكلّ المقاييس، مقارنة مع عدد كبير من الزعماء العرب في تونس وخارج تونس. فمعمّر القذافي، على سبيل المثال وليس الحصر، بقي 42 عاما في السلطة تفنّن خلاها في افقار الليبيين. لم يخرج منها الّا جثّة هامدة. كانت ليبيا كلّها ملكه بكل ما تمتلك من ثروات وبشر. ما زال الليبيون يترحّمون على النظام الملكي الذي امّن لهم الرخاء والاستقرار والطمأنينة فترة طويلة...
كان لبنان في الماضي مكانا مختلفا، اذ كان رئيس الجمهورية فيه يخرج من قصر الرئاسة في اللحظة التي تنتهي فيها ولايته. اذا لم يخرج، كما حصل مع بشارة الخوري، اوّل رئيس بعد الاستقلال اصرّ على تجديد ولايته، كان الشارع يتكفل ذلك. سقط بشارة الخوري في الشارع بعدما اصرّت حاشيته على بقائه في الرئاسة. لهذا السبب كان هناك في لبنان، ولا يزال، رؤساء سابقون يمضون ما بقي من حياتهم في بيوتهم يتمتعون بالتفرّج على الاحداث السياسية في بلدهم وفي محيطه وفي العالم الواسع.
في العام 2006، وعد علي عبدالله صالح، الرئيس اليمني وقتذاك، بانّه لن يترشّح للانتخابات الرئاسية. اصدر بيانا طويلا شرح فيه الأسباب التي تدعوه الى الاقدام على مثل هذه الخطوة، منطلقا من ضرورة التبادل السلمي للسلطة. كانت تلك اكبر خدمة يستطيع رئيس تقديمها الى شعبه، على الرغم من انّ الاخوان المسلمين، الذين لا يؤمنون بالانتخابات سوى عندما تكون مناسبة لهم، كانوا يعدّون نفسهم للانقضاض على السلطة والسيطرة على اليمن. فجأة، غيّر علي عبدالله صالح رأيه بضغط من الحاشية بعدما اكتشف، ربّما، انّ ليس في استطاعته العيش خارج السلطة او بعيدا عنها. كان يمكن ان تؤسّس خطوته تلك لتقاليد سياسية جديدة في اليمن، علما انّ ذلك ليس مضمونا في ضوء ما شهده البلد من احداث منذ العام 2011 من جهة والرعونة التي اظهرها تنظيم الاخوان
الذي يمتلك شبقا ليس بعده شبق الى السلطة من جهة اخرى.
لم يخرج صدّام حسين من الرئاسة الّا بعدما اقتلعه الاميركيون منها. لا يزال بشّار الأسد مصرّا على ان يكون رئيسا على سلطة ورثها عن والده الذي نفّذ انقلابه في العام 1970، رافضا ان يأخذ في الاعتبار انّه لم يبق شيء من سوريا التي عرفناها.
هل اضاع "أبو مازن" فرصا منذ خلافته لياسر عرفات الذي توفّى في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 2004؟ الأكيد انّه يمكن خوض نقاش طويل في هذا المجال، خصوصا عندما يتبيّن ان السلطة الوطنية أخطأت في معظم الاحيان، خصوصا في مرحلة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزّة صيف العام 2005. تصرّف رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية تصرّف المتفرّج على ما يدور في القطاع بدل الانتقال الى هناك والاشراف شخصيا على مرحلة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي الذي استغلته "حماس" الى ابعد حدود. فعلت ذلك من اجل تحقيق هدفين. أولهما تحويل غزّة الى "امارة إسلامية" على الطريقة الطالبانية، نسبة الى حركة طالبان الأفغانية، وثانيهما جعل غزّة قاعدة للتآمر الاخواني على مصر. لم تعترض إسرائيل على تصرّفات "حماس" يوما. هل من خدمة، تقدّم الى إسرائيل، اكبر من خدمة ان تكون هذه الحركة بصواريخها المضحكة المبكية وملثميها المسلّحين واجهة الشعب الفلسطيني في العالم؟
غريب إصرار شخص كان في الماضي شخصية منفتحة تمتلك منطقا وواقعية على الانضمام الى نادي الرؤساء الديكتاتوريين العرب بدل ان يلعب دورا من خلال حركة "فتح" في إيجاد شخصية شابة وراقية تخلفه في موقع رئيس السلطة الوطنيّة.
يبدو ان السلطة بمثابة مرض يصيب من يتذوّق طعمها حتّى لو كان ذلك في فلسطين الواقعة تحت الاحتلال حيث يحتاج "أبو مازن" نفسه الى التنسيق مع ضابط إسرائيلي في كلّ مرّة يغادر فيها منزله او يريد السفر الى بلد ما.
الواضح انّها حالة مرضية تصيب الكبار اكثر من الصغار. من كان يتصوّر ان شخصا مثل الحبيب بورقيبة، يمتلك رؤية عصرية متطورة للسلطة والمجتمع، وقع في فخّها بعد تقدّمه في السنّ... فاضاع على تونس فرصا ما زالت تدفع ثمنها الى اليوم؟