يبدو واضحا، إلى حدّ كبير، بعد أسبوعين على وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض، أن هناك تصعيدا مع إيران. لم يعد السؤال هل هناك تغيير في الموقف الأميركي من السياسات التي تتبعها طهران، بمقدار ما أنّ ما يبدو مطلوبا معرفته إلى أي حدّ سيكون ترامب مختلفا عن سلفه باراك أوباما.
إلى الآن، هناك اختلاف جذري بين الإدارتين. هناك وعي لدى الإدارة الجديدة لخطورة السياسات الإيرانية وللمشروع التوسّعي الذي بدأ يأخذ مداه بموازاة الاحتلال الأميركي للعراق في نيسان-أبريل 2003.
سلّمت إدارة جورج بوش الابن العراق على صحن من فضّة إلى إيران. كان مطلوبا الانتهاء من النظام العراقي القائم. لكنّه كان مطلوبا أيضا رسم إستراتيجية واضحة لمرحلة ما بعد صدّام حسين.
لم يكن طبيعيا الإتيان بميليشيات مذهبية مدرّبة في إيران لحكم العراق والعمل من أجل القضاء على النسيج الاجتماعي للبلد الذي صار مهلهلا إلى حد كبير في ظلّ النظام البعثي والحروب التي خاضها في الداخل والخارج لسنوات طويلة.
ما تردّد بوش الابن في القيام به، نفّذه باراك أوباما من دون أيّ خجل أو وجل. استسلم الرئيس الأميركي السابق، وهو الرئيس الأسود الأوّل الذي يدخل البيت الأبيض، لإيران بشكل كلّي وذلك عندما انسحب عسكريا من العراق من دون أيّ شرط.
كان أوباما أسير اللوبي الإيراني في واشنطن، كما كان أسير مجموعة محيطة به، على رأسها فاليري جاريت، تعتبر إيران نموذجا للدولة الديمقراطية التي تقاتل الإرهاب من جهة ويمكن أن تشكّل نموذجا يمكن الاقتداء به من جهة أخرى.
بالنسبة إلى أوباما لا توجد أيّ علاقة لإيران بالإرهاب، لا بتفجير مقرّ المارينز الأميركيين في بيروت في تشرين الأوّل- أكتوبر من العام 1983، وقبل ذلك السفارة الأميركية، ولا بتفجير الخبر الذي قتل فيه أميركيون وسعوديون في العام 1996 ولا باغتيال رفيق الحريري ورفاقه في مثل هذه الأيّام من العام 2005 ولا بما تعرّض له العسكريون الأميركيون وما زالوا يتعرضون له في العراق منذ 2003.
لم يكن أوباما يرى سوى الإرهاب السنّي. لم يرد يوما معرفة أن هناك علاقة بين إيران والنظام السوري من جهة و”داعش” و”القاعدة” من جهة أخرى. بالنسبة إليه، كان الملف النووي الإيراني يختزل كلّ مشاكل الشرق الأوسط وأزماته.
أكثر من ذلك، كان الإخوان المسلمون يمثلون تطلعات الجيل العربي الجديد، من المحيط إلى الخليج، وكان “الوليّ الفقيه” في إيران قبلة كل شيعي في العالم بغض النظر عن عرقه وقوميته.
لدى التمعّن في الكلام الصادر عن أوباما في مناسبات مختلفة، كان الصراع مع أهل السنّة في الشرق الأوسط مسألة أيديولوجية يؤمن بها إيمانا عميقا، مثل إيمانه بأنّ الإرهاب لا يمكن إلّا أن يكون سنيّا.
كان هناك تناقض كبير بين كلام الرئيس السابق وتصرّفاته التي أوحت بأنّه يرفض الاعتراف بأنّ كلّ الحركات الإرهابية المرتبطة بالإسلام من قريب أو بعيد، إنّما ولدت من رحم الإخوان المسلمين. كان للإخوان في كلّ وقت روابط ما مع إيران والعديد من الأحزاب والمجموعات التي ارتبطت بها، من بينها “حزب الدعوة الإسلامية” الذي يعتبر حاليا الحزب الحاكم في العراق.
جاء الآن من يسأل ماذا تفعل إيران في العراق؟ هل طبيعي أن تشنّ الولايات المتحدة حربا مكلفة إنسانيا وماديا وأن تكون نتيجة هذه الحرب انتصارا إيرانيا على الأرض العراقية؟
ردّا على هذا السؤال المحوري، بدأت إدارة ترامب تقدّم أجوبة. سيكون الجواب الأول مزيدا من العقوبات يفرضها الكونغرس على إيران وعلى الدائرين في فلكها. في موازاة هذه العقوبات، التي تعكس رغبة في تغيير جذري في النظر إلى السياسة التوسّعية الإيرانية، هناك متابعة دقيقة لكل السلوك الإيراني. يشمل ذلك الاعتداء على فرقاطة سعودية قبالة ميناء الحديدة اليمني.
فيما ترك باراك أوباما إيران تتصرّف على هواها في المنطقة، إن في العراق أو في سوريا أو في لبنان أو في اليمن، على سبيل المثال وليس الحصر، رفع ترامب بطاقة حمراء في وجه إيران. كان كافيا أن تقوم بتجربة لصاروخ باليستي كي يقول الرئيس الأميركي “إنّ تحذيرا رسميّا وُجّه إلى طهران”.
قبل ذلك، كان وزير الدفاع الجديد الجنرال جيمس ماتيس، الذي يعرف إيران عن ظهر قلب ويعرف تماما ما فعلته في العراق، يؤكّد في شهادة أمام لجنة القوات المسلّحة في مجلس الشيوخ أن “على الولايات المتحدة المحافظة على نفوذها في العراق حتّى بعد معركة تحرير الموصل من داعش”. اتهم ماتيس إيران بأنّها “القوة الأكثر إثارة للاضطرابات” في الشرق الأوسط والخليج.
ذهب إلى أبعد من ذلك، في شهادة خطية سبقت الموافقة على تعيينه في موقع وزير الدفاع، قوله “على الولايات المتحدة التوصّل إلى استراتيجية بعيدة المدى تضمن منع إيران من تحقيق هدفها القاضي بفرض الهيمنة على المنطقة”.
هناك إجماع في أوساط كبار المسؤولين الأميركيين على أن شهر العسل انتهى مع إيران. قبل ترامب، وجّه مستشار الأمن القومي مايك فالن، وهو جنرال آخر، تحذيرا رسميا إلى إيران بسبب تجربة الصاروخ الباليستي معتبرا أنّ التجربة انتهاك لقرار مجلس الأمن الرقم 2231.
كلّ ما يمكن قوله، أقلّه إلى الآن، أنّ دونالد ترامب شخص غريب الأطوار وأنّ من الصعب التكهن بما الذي سيفعله. ولكن في ما يخص الموضوع الإيراني، يظهر أنّه اتخذ قراره وذلك بدعم واضح من زعماء الحزب الجمهوري الذي يسيطر على مجلسي الكونغرس.
إلى أيّ حد يبدو مستعدّا للمواجهة وكم سيذهب بعيدا فيها؟ هذا أمر متروك للأسابيع الآتية، علما أنّه ليس مسموحا بالنسبة إليه، أن تستفيد إيران من الاتفاق في شأن ملفّها النووي من أجل التصرّف بالطريقة التي تناسبها خارج حدودها، خصوصا في العراق.
أعاد الرئيس الأميركي الجديد الاعتبار للعراق. هل لديه أوراق يلعبها مع إيران؟ الثابت أن إيران في حاجة إلى رفع العقوبات الأميركية والدولية. ستناور بواسطة التجارب الصاروخية وعبر التصعيد الكلامي، لكن ليس أمامها سوى التعاطي مع الواقع الأميركي الجديد في نهاية المطاف.
تبدو حالها شبيهة بحال روسيا إلى حدّ كبير ولكن مع وجود فارق. يبدو أن فلاديمير بوتين على استعداد لعقد صفقات مع دونالد ترامب على الرغم من أنّه ليس مستعدا للإسراع في رفع العقوبات المفروضة على موسكو.
في استطاعة الولايات المتحدة ممارسة لعبة الانتظار. ليس لديها ما تخسره عندما تتفرّج على قوّتين، مثل إيران وروسيا، منهكتين اقتصاديا تغرقان في أزمات خارج حدودهما.
يمكن أن يكون دونالد ترامب معجبا بفلاديمير بوتين. لكن ذلك لا يعني أنّ التعاطي معه سيكون تعاطي الند للندّ. سيعتمد الكثير على ما لدى الرئيس الروسي ليقدّمه للولايات المتحدة كي تتحقّق صفقة بين الجانبين قد تشمل أوكرانيا وسوريا.
في المقابل، الأكيد أن ترامب ليس معجبا لا بإيران ولا بزعيمها “المرشد” علي خامنئي ولا بكبار المسؤولين فيها. ستكون هناك مواجهة حتمية بين الجانبين إذا اعتقدت إيران أنّ في استطاعتها التصرّف من دون حسيب أو رقيب.
سيكون العراق، حيث تبدو ميليشيات “الحشد الشعبي” مستعدة لكلّ التجاوزات والارتكابات في حقّ أهل الموصل، المكان الذي ستظهر فيه إيران مدى استعدادها للحدّ من اندفاعتها التي وفرّها لها الاحتلال الأميركي للعراق أكثر من أيّ شيء آخر.
المصدر: جريدة العرب