كلام كثير هذه الايّام عن حرب الدائرة في المنطقة، وهي حرب بكلّ ما في الكلمة من معنى. خلطت هذه الحرب، الفريدة من نوعها، بين التكنولوجيا المتطورة والضربات التقليدية التي تستهدف أهدافا في سوريا... والضغوط الاقتصادية التي يبقى افضل مثل عليها العقوبات الأميركية على ايران.
تدور الحرب خارج لبنان الذي يبدو مصرّا على زج نفسه فيها في ظلّ وجود "حكومة حزب الله" في "عهد حزب الله". يدفع لبنان ثمنا غاليا على كلّ صعيد بسبب إصرار "حزب الله" على زجّه في حرب اقليمية بناء على طلب إيراني ليس الّا.
الثمن الذي يدفعه لبنان كبير الى درجة ان مصيره صار في مهبّ الريح، خصوصا في ظلّ ازمة اقتصادية لم يشهد مثيلا لها منذ قيامه قبل مئة عام. يبقى افضل تعبير عن هذه الازمة الاقتصادية انهيار النظام المصرفي اللبناني الذي كان بمثابة العمود الفقري للاقتصاد. مع انهيار النظام المصرفي واحتجاز أموال المودعين، من لبنانيين وعرب وأجانب، ومع الكارثة التي لحقت بالنظام التعليمي، ومع الازمة التي تعاني منها المستشفيات، هل لا يزال في الإمكان الحديث عن بلد اسمه لبنان؟ الأكيد ان ذلك لم يعد ممكنا، خصوصا اذا اخذنا في الاعتبار ما يعاني منه قطاع الكهرباء والأموال التي صرفت منذ 12 عاما على يد وزراء "التيّار الوطني الحر" (التيّار العوني). يتبيّن يوما بعد يوم انّ صرف الأموال على الكهرباء لم يكن سوى عملية "تشبيح"...
ليس التوتر على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية سوى تفصيل في هذه الحرب التي تصبّ في افهام ايران بانّ عليها الانسحاب من الأراضي السورية عاجلا ام آجلا. اكثر من ذلك، على ايران التراجع عن مشروعها التوسّعي الذي يطال العراق، إضافة الى سوريا ولبنان واليمن. تندرج الحرب الدائرة في المنطقة في هذا الاطار في وقت تصرّ ايران على تأكيد ان لبنان ورقة من اوراقها وانّها لن تسمح بافلات هذه الورقة منها.
ليست العملية الأخيرة التي نفّذها "حزب الله" في مزارع شبعا المحتلّة، ثمّ نفى ان يكون نفّذها بعدما وزّع أنصاره الحلوى في الشوارع احتفاء بـ"الانتصار" الجديد على إسرائيل، سوى تعبير عن الرغبة في زجّ لبنان في حرب يبدو مطلوبا ان يكون له دور فيها غصبا عن رغبة شعبه... ولكن بموافقة الحكومة والعهد الميمونين.
من الواضح، ان هذه الموافقة اكثر من طبيعية في ظلّ الهيمنة التي بات "حزب الله" يمارسها في كلّ المجالات اللبنانية. يؤكّد ذلك نجاحه في عزل لبنان عن العرب والعالم. هذا ما دفع وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان الى ابلاغ احد كبار المسؤولين ما معناه انّ العالم ليس مستعدا لمساعدة لبنان في ظلّ وجود مثل هذه الحكومة. لا شكّ ان الفراغ يبقى افضل من هذه الحكومة... مثلما ان الفراغ في رئاسة الجمهورية كان افضل من انتخاب مرشّح "حزب الله".
ما يؤكّد ان الفراغ كان افضل، ان على صعيد رئاسة الجمهورية او على صعيد رئاسة الحكومة، غياب ايّ رد فعل يصدر عن ايّ من المسؤولين على عملية لـ"حزب الله" في شبعا ردّا على قتل إسرائيل لعنصر من "حزب الله" يقاتل في سوريا، أي يشارك في الحرب، ذات الطابع المذهبي، المستمرّة منذ تسع سنوات على الشعب السوري. قد يكون هدف "حزب الله" من النفي المتأخّر لتنفيذ عملية في شبعا تفادي ايّ احراج لحكومته وعهده في هذه الظروف بالذات!
كلّ ما يمكن استنتاجه من العملية التي قال مؤيدو "حزب الله" في البداية انّها استهدفت دبابة إسرائيلية بصاروخ "كورنيت" ان الهدف توجيه رسائل في اتجاهات عدّة. لعلّ الرسالة الأولى ان لبنان لا يمكنه البقاء خارج الحرب الدائرة في المنطقة. لكن الرسالة الاهمّ هي الرسالة الثانية الموجّهة الى الداخل اللبناني. أراد "حزب الله" القول بكلّ بساطة انّه الآمر والناهي في البلد... حتّى لو كان ذلك على حساب البلد وأهله.
في النهاية، يرى "حزب الله" انّه يمثّل الاجماع اللبناني. على كلّ من لا يعجبه ذلك مغادرة لبنان. ذهب "حزب الله" الى سوريا باجماع لبناني وهو يرفض، باسم الاجماع اللبناني، الدعوة الى "الحياد" التي اطلقها البطريرك الماروني بشارة الراعي. يرفض، باسم الاجماع، كلّ ما صدر عن البطريرك ان بالنسبة الى "فك اسر الشرعية اللبنانية" او تطبيق القرارات الصادرة عن مجلس الامن التابع للأمم المتحدة، في مقدّمها القرار 1559 و1680 و1701. باختصار شديد أراد "حزب الله" القول: انا لبنان، ولبنان انا.
ليس لدى إسرائيل أي اعتراض، اقلّه في الوقت الحاضر، على ما يقوم به "حزب الله". اذا كان "حزب الله" واجهة لبنان في العالم، فاين المشكلة؟ العالم كلّه تقريبا، صار يصنّف "حزب الله" كتنظيم "إرهابي". ما الذي لدى إسرائيل تخسره عندما يكون لبنان في "عهد حزب الله" و"حكومة حزب الله"؟ هل خسرت إسرائيل شيئا عندما أصبحت "حماس" التي يرمز اليها الفلسطيني الملثّم الذي يحمل بندقية ويستعرض صواريخ رمزا لفلسطين وقضيّة فلسطين؟ كلّ ما حصل ان الجلاد الإسرائيلي صار الضحيّة، في حين انّ الضحيّة الحقيقية، وهي الشعب الفلسطيني، صارت الجلّاد... اقلّه بالنسبة الى المجتمع الدولي.
مرّة أخرى يثبت "حزب الله" انّ لبنان واللبنانيين آخر همومه. لبنان ليس سوى "ساحة" لإيران تستخدمها كما تشاء بما يخدم مصالحها التي تتناقض كلّيا مع مصالح لبنان.
من اجل بقاء لبنان "ساحة"، يمكن الحديث عن عملية في شبعا ثمّ التراجع عن تنفيذ مثل هذه العملية. المهمّ استمرار الإمساك بلبنان واللبنانيين وبقاء لبنان واللبنانيين رهائن لدى ايران في وقت تدور فيه حرب من نوع مختلف في المنطقة.
المهمّ ان يكون قرار الحرب والسلام في لبنان قرارا إيرانيا في مرحلة تطرح فيها أسئلة كثيرة عن وضع القوات الدولية في الجنوب اللبناني ومستقبلها. هذه القوات موجودة أصلا منذ العام 1978، لكنّه جرى تعزيزها صيف العام 2006 مع صدور القرار الرقم 1701 عن مجلس الامن. كيف سينظر المجتمع الدولي، على رأسه الولايات المتّحدة الى وضع القوات الدولية، المفترض تمديد مهمّتها في 31 آب – أغسطس المقبل، والتي يقول الأمين العام لـ"حزب الله" انّ وجودها لا يهمه بقيت او رحلت؟