في الطريق الطويل الى استعادة العراقيين للعراق، تشكّل زيارة مصطفى الكاظمي للمملكة العربيّة السعودية خطوة مهمّة في هذا الاتجاه، خصوصا بعد اختياره ان تكون المملكة البلد الاوّل الذي يذهب اليه، وذلك منذ تشكيل حكومته منتصف نيسان – ابريل الماضي.
ما يعطي هذه الخطوة اهمّيتها ان السعودية والعراق يسيران للمرّة الأولى نحو إقامة علاقات طبيعية مبنية على المصالح المشتركة بعيدا عن الشعارات والاوهام والكلام الفارغ عن التضامن العربي وما شابه ذلك.
ما يعنيه ذلك انّ الزيارة ستسفر عن توقيع اتفاقات ذات طابع اقتصادي مهّدت لها في الماضي زيارات لوفود سعودية للعراق كانت ابرزها في العام 2019 عندما كان عادل عبدالمهدي لا يزال في موقع رئيس الوزراء. لم تؤد تلك الزيارة الى النتائج المرجوّة، ذلك ان عادل عبدالمهدي كان اسير علاقته الإيرانية اكثر بكثير من مصطفى الكاظمي الذي يحاول، وان بصعوبة كبيرة ان يكون مختلفا. الى ايّ حدّ سيتمكّن من ذلك؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يطرح نفسه في وقت هناك خلفية أخرى للزيارة. تتمثّل هذه الخلفية في المواجهة الأميركية – الإيرانية التي تريد طهران ان يكون الجار العراقي احدى ساحتها تلافيا لاي صدام مباشر مع الاميركيين على ارض "الجمهورية الإسلامية"...
تبدو فكرة التقارب السعودي - العراقي مهمّة على غير صعيد، خصوصا في ضوء الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003 تمهيدا لتسليمه على صحن من فضّة الى ايران. اخلّ ذلك بالتوازن القائم في المنطقة كلّها. ازالت ايران الحدود بينها وبين العراق. يحاول مصطفى الكاظمي إعادة هذه الحدود الى ما كانت عليه، أي الى حدود بين دولتين لكلّ منهما السيادة على أراضيها. من هذا المنطلق، تشكّل إعادة الحدود العراقية – الإيرانية الى حدود بين دولتين سيّدتين امرا بالغ الاهمّية نظرا الى ان هذه الحدود ليست مجرّد حدود بين بلدين. هذه الحدود، حسب ما كان يقوله الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران في ثمانينات القرن الماضي، حدود عمرها مئات السنين بين حضارتين كبيرتين (الحضارة العربية والحضارة الفارسية).
كان ميتران يعتبر ان إزالة هذه الحدود سيخلّ بالتوازن الإقليمي كلّه، وهذا ما جعل فرنسا تدعم العراق عسكريا وسياسيا عندما بات العراق مهددا من ايران في السنة الثانية من حرب الخليج الأولى التي استمرّت بين 1980 و1988. ليس مطلوبا ان يكون الكاظمي معاديا لإيران، وهو يعرف انّه ليس قادرا على ذلك. العداء لإيران لا يخدم العراق. اكثر من ذلك، لا يستطيع رئيس الوزراء العراقي تغيير الوضع في الداخل العراقي بين ليلة وضحاها. هناك توازنات لا يمتلك القدرة على تجاهلها. ظهر ذلك واضحا عندما اضطر الى اطلاق عناصر "كتائب حزب الله" اعتقلها الامن العراقي مع منصتين لاطلاق صواريخ. لم يستسلم التابعون لإيران للكاظمي في ايّ وقت. تحداه قيس الخزعلي الذي يقف على رأس احدى الميليشيات المذهبية التابعة لإيران مباشرة. نزل متظاهرون من "كتائب حزب الله" الى احد شوارع بغداد وداسوا على صور رئيس الوزراء من دون ان يجدوا من يتجرّأ على من اعتراضهم.
لا تزال ايران قويّة في العراق ولا تزال لديها مناطق نفوذ خاصة بها... ولا تزال قادرة على تحدّي مصطفى الكاظمي على الرغم من أنّ الجو الشعبي، بما في ذلك الجوّ الشيعي، معاد لها ولما تريد ان تفرضه على العراق.
لكنّ ذلك كلّه لا يمنع التفاؤل بان تحقق زيارته للسعودية نتائج إيجابية، خصوصا انّ المدخل الاقتصادي مريح للجانبين في حال استطاع الكاظمي تأمين حدّ ادنى من الاستقرار الأمني في العراق وعلى طول الحدود العراقية – السعودية التي هي نقطة ضعف للبلدين بسبب طولها من جهة وطبيعتها الجغرافية وصعوبة حمايتها امنيا وعسكريا بشكل فعّال من جهة اخرى.
سيزيد النجاح في إقامة علاقات طبيعية بين العراق والسعودية من التحديات الكثيرة التي تواجه مصطفى الكاظمي الذي تسلّم بلدا مفلسا نهبته الاحزاب المذهبية منذ العام 2003. لا شكّ ان النجاح في إقامة مثل هذه العلاقات الطبيعية سيخدم البلدين. لدى السعودية ما تقدّمه الى العراق، خصوصا اذا وجد القطاع الخاص فيها مناخا يسمح بالاستثمار فيه في مجالات كثيرة. من بين هذه المجالات المساعدة في تطوير صناعة النفط العراقية... والزراعة والاتصالات والاعمار. في المقابل، انّ العراق الآمن الذي يعيش في ظروف طبيعية، المنفتح غربا وليس شرقا، يمكن ان يساهم في إعادة التوازن الذي فقدته المنطقة بعد العام 2003 والذي تظهر نتائجه الكارثية يوما بعد يوم. مثل هذا العراق الآمن القادر على الحدّ من الفساد سيعيد بعض الامل الى العراقيين بان هناك مستقبلا افضل لهم ولابنائهم وان هناك خيارا آخر امام العراق، غير ان يكون منطقة نفوذ إيرانية يتحكّم بها "الحشد االشعبي".
لا يمكن عزل التقارب السعودي – العراقي عن الجهود الأميركية من اجل الربط بين دول مجلس التعاون الخليجي والعراق. هذا ما ظهر من خلال بيان مشترك أميركي – خليجي – عراقي يركّز على ربط كهرباء الخليج بكهرباء العراق بمساعدة أميركية.
في النهاية، ماذا لدى ايران تقدّمه الى العراق؟ هل هناك نموذج اقتصادي او سياسي إيراني قابل للتصدير. لدى ايران ميليشيات مذهبية تصدّرها وتعمل على رعايتها في هذا البلد العربي او ذاك. لا نتيجة لما تفعله ايران سوى نشر البؤس والفقر والجهل والتعصّب المذهبي... وهذا آخر ما يحتاج اليه العراق.
يحتاج العراق الى السعودية وتحتاج السعودية الى العراق. المهمّ ان يكون العراق مهيّأً للمرحلة الجديدة في وقت ليس ما يشير الى ان المواجهة بين مصطفى الكاظمي والميليشيات الموالية لإيران ستكون سهلة، خصوصا بعدما أظهرت هذه الميليشيات انيابها واغتالت اخيرا الباحث هشام الهاشمي الذي ينتمي الى الحلقة الضيّقة المحيطة برئيس الوزراء. اغتيل الهاشمي بدم بارد في بغداد، في منطقة يفترض ان تكون آمنة. لم يظهر الى الآن ان الامن العراقي قادر على الذهاب بعيدا في كشف الجناة والقبض عليهم، او اقلّه تسميتهم.
تبقى الطريق امام استعادة العراقيين للعراق طويلة. ليس نجاح مصطُفى الكاظمي في ذلك مضمونا، لكنّ الواضح ان عليه ان يحاول في ظلّ ظروف عربية وأميركية يمكن ان تساعده في ذلك.