قبل ثلاثين عاما، في الثاني والعشرين من ايّار مايو 1990 وقّع علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية العربية المنية وعلي سالم البيض الأمين العام للحزب الاشتراكي في اليمن الجنوبي اتفاق الوحدة اليمنية. كان توقيع الاتفاق في عدن في مبنى جديد أقيم في المكان الذي كان فيه مقرّ الحزب الاشتراكي في حيّ التواهي. انّه المكان الذي انطلقت منه احداث 13 كانون الثاني – يناير 1986 التي كانت بمثابة بداية النهاية للنظام القائم في الجنوب. في مبنى اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي، نُفّذت يومذاك عملية تصفية لعدد من أعضاء المكتب السياسي للحزب الاشتراكي من خصوم علي ناصر محمّد الذي كان يجمع في مطلع 1986 بين موقعي رئيس الدولة والأمين العام للحزب الحاكم.
بعد حرب أهلية بين "الرفاق" الماركسيين، الذين عاد كلّ منهم الى قبيلته وعشيرته ومنطقته، خرج علي ناصر من السلطة وانتقل الى صنعاء ودمشق. خرج معه منها ممثلو محافظة ابين لمصلحة تحالف جديد عماده قسم كبير من الحضارمة واهل الضالع ولحج وبعض العدنيين.
كان الحضارمة يمثلون الجناح السياسي في التركيبة الجديدة للنظام. وكان اهل الضالع ولحج في أساس الجناح العسكري والأمني في التركيبة التي لم تستطع إيجاد مستقبل لها، فهربت الى الوحدة في أواخر 1989 بدفع من الحضرمي علي سالم البيض.
ليس معروفا الى الآن، لماذا قبل البيض بوحدة اندماجية محت الكيان الجنوبي الذي كان قائما كدولة مستقلّة لمصلحة كيان واحد هو الجمهورية اليمنية. يصعب إيجاد تفسير لذلك باستثناء العودة الى شخصية الأمين العام للحزب الاشتراكي وقتذاك... او الى شعوره بعمق الازمة التي يمر فيها النظام في جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية.
بعد ما سمّي "احداث 13 يناير"، انكشف النظام في الجنوب، خصوصا في ضوء بداية الانهيار للاتحاد السوفياتي الذي لم يستطع ضبط الوضع في عدن والحؤول دون حصول الانفجار الكبير فيها. كانت "احداث 13 يناير"، التي سبقت كارثة المفاعل النووي في تشيرنوبيل، الدليل الاوّل على ان الاتحاد السوفياتي دخل مرحلة التفكّك وانّه ليس اكثر من "نمر من ورق" عاجز عن إدارة البلدان التي وضعها تحت نوع من الوصاية مثل اليمن الجنوبي او اثيوبيا او دول أوروبا الشرقية. ليس صدفة ان جدار برلين انهار في وقت كان علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض يتوصّلان في عدن الى اتفاق اوّلي في شأن الوحدة الاندماجية.
مع رفع "العليّين" (علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض) علم الوحدة في عدن في مشهد تاريخي كان عليه شاهد عربي وحيد هو ياسر عرفات، دخل اليمن مرحلة جديدة. فجأة تحرّر الجنوب من نظام حكم الحزب الواحد الذي حقّق إنجازات معقولة على صعيد التعليم وفرض الامن، لكنّه نشر الفقر والبؤس والغى أي نشاط اقتصادي مثمر وايّ دور لعدن التي كانت في مرحلة معيّنة مدينة تصنع فيها الثروات.
اما الشمال، فصار مختلفا الى حدّ ما، خصوصا في ظلّ التعددية الحزبية وصدور عشرات الصحف وبعض الانفتاح على الصعيد الاجتماعي. مارس علي عبدالله صالح طوال تلك الفترة هوايته المفضّلة في السياسة. مارس دور الحكم بين الحزب الاشتراكي من جهة وحزب التجمّع اليمني للإصلاح الذي سيطر عليه الاخوان المسلمون شيئا فشيئا بعدما كان نوعا من التحالف القبلي مع الإسلاميين قبل وفاة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر.
افقد سقوط الحزب الاشتراكي، بعد حرب الانفصال صيف 1994، الرئيس اليمني القدرة على لعب الدور الذي أعتاد لعبه، أي دور نقطة التوازن في البلد. بعد انتصاره في حرب 1994 بمساعدة ميليشيات التجمّع اليمني للإصلاح، تغيّر الرجل كثيرا وفرض على اليمن النظام الذي كان قائما في الشمال قبل العام 1990. في الواقع، انتهت الايام الحلوة في اليمن في خريف 1994، عندما بدأ النظام اليمني الجديد يتكوّن اثر الانتقال الى نظام الرئيس ونائب الرئيس بدل نظام مجلس الرئاسة المكوّن من خمسة اعضاء. اصبح الجنوبي (من محافظة ابين) عبد ربّه منصور هادي، وهو ضابط اقلّ من عادي من جماعة علي ناصر محمّد (الزمرة)، نائبا للرئيس.
لدى تعيينه عبد ربّه في موقعه الجديد، سألت علي عبدالله صالح، الذي عانى الكثير من علي سالم البيض عندما كان نائبا لرئيس المجلس الرئاسي، كيف يمكن ان تضع شخصا من هذا المستوى نائبا لك؟ أجاب بالحرف الواحد: "انت شخص ذكي، لم أتوقع منك سؤالا من هذا النوع. هذا لا يعمل لي مشاكل". تبيّن مع الوقت ان لدى نائب الرئيس سابقا، والرئيس الموقت منذ العام 2012، حسابات كثيرة يريد تصفيتها مع علي عبدالله صالح. خرجت احقاد دفينة لا وجود لمبرّر لها في وقت يسير فيه اليمن من الوحدة الى المجهول.
كانت الوحدة في مرحلة معيّنة ضرورة. لولا الوحدة، لما استطاع اليمن رسم حدوده لا مع سلطنة عُمان ولا مع المملكة العربية السعودية لاحقا. كانت المزايدات بين الشمال والجنوب تحول دون الاقدام على أي خطوة في هذا الاتجاه. اكثر من ذلك، لعبت الوحدة دورها في الاستقرار الإقليمي. لا شكّ انّ علي عبدالله صالح ارتكب أخطاء كثيرة، لكنّ الخطأ الأكبر كان في انقلاب الاخوان المسلمين عليه في العام 2011 مستغلّين "الربيع العربي". لم يدرك الاخوان الذين احكموا سيطرتهم على التجمّع اليمني للإصلاح انّهم قدموا اكبر خدمة للحوثيين وايران التي تقف خلفهم.
هناك معطيات جديدة مختلفة في اليمن. قتل الحوثيون علي عبدالله صالح. لم يعد لهم شريك في الشمال، فيما هناك حركة انفصالية في الجنوب في اطار مساحة جغرافية معيّنة انطلاقا من عدن. هناك حلف اخواني – حوثي من تحت الطاولة وفوقها يتعزّز يوما. هناك غياب تام لـ"الشرعية" التي تحوّلت الى أداة في خدمة الاخوان ومن يقف خلفهم. وهذا ما يفسّر التدخل التركي المتزايد في غير منطقة يمنية، خصوصا في محافظة شبوة.
تظلّ تجربة الوحدة اليمنية تجربة غنيّة. كانت حلما استمرّ اربع سنوات للبعض و21 سنة للبعض الآخر، أي انّه انتهى مع محاولة الاغتيال، التي تعرّض لها علي عبدالله صالح في الثالث من حزيران – يونيو 2011 في مسجد النهدين داخل حرم دار الرئاسة. أي يمن بعد الوحدة، أي بعد تشظّي البلد؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال في غياب صيغة جديدة لليمن الذي دخل نفقا طويلا. الأكيد انّه لن يخرج من هذا النفق في شكل دولتين مستقلتين كما كانت الحال قبل الوحدة. الأكيد أيضا ان تغييرات كبيرة طرأت على المجتمع في كلّ انحاء اليمن... بما في ذلك تفكّك المجتمع القبلي في الشمال!