يقلق في الفوز الكبير للأحزاب اليمنية الأوروبيّة التي باتت تشكل كتلة مهمة ذات وزن كبير في البرلمان الأوروبي الذي مقره ستراسبورغ، المدينة الفرنسية القريبة من ألمانيا، بروز لظاهرة تشبه النازيّة على جبهتين. تواجه أوروبا النازية الجديدة على جبهة داخلية من جهة، وجبهة التهديد الذي باتت تشكله روسيا التي غزت أوكرانيا من جهة أخرى.
جاء انبعاث النازية بشكلها الجديد، عبر الأحزاب اليمينية المتطرفة أوروبياً، في وقت احتفلت أوروبا بالذكرى الـ80 للإنزال الغربي عند شواطئ مقاطعة نورماندي الفرنسية.
كان الإنزال الذي قاده الجنرال الأميركي دوايت أيزنهاور انطلاقا من مقر قيادته في لندن خطوة أولى حاسمة على صعيد هزيمة ألمانيا النازية بقيادة رجل مريض نفسياً اسمه ادولف هتلر.
حضر زعماء ومسؤولون كبار من مختلف انحاء العالم، بينهم الرئيس جو بايدن، احتفال النورماندي. وجه الغرب رسالة واضحة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعدم دعوته إلى النورماندي حيث كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حاضراً بشكل ملفت.
لكن ذلك لم يحل دون إشارة الرئيس الفرنسي إلى الدور الذي لعبه «الجيش الأحمر»، أي الجيش السوفياتي في تحرير أوروبا من النازية في السنوات الأخيرة من سنوات الحرب العالمية الثانية التي استمرت بين 1939 و1945.
تنبه الرئيس إيمانويل ماكرون، في ما يبدو، إلى الترابط بين صعود الأحزاب اليمينية الأوروبية والغزو الروسي لأوكرانيا بما يشكله من تهديد للقارة العجوز وللاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة تحديداً.
سارع إلى حل الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) والدعوة إلى انتخابات عامة في 30 يونيو الجاري.
قرّر ماكرون خوض مغامرة بمراهنته على الفرنسيين في هذه الظروف بالذات. قرّر عملياً استنهاض الشعب الفرنسي كي يقول إنّّ اليمين المتطرف الذي تقوده مارين لوبان لا يمثله وذلك على الرغم من كل تلك الظواهر التي تقلق المواطن الفرنسي العادي، بما في ذلك ظاهرتا الهجرة والإسلاموفوبيا.
هذا لا يعني في طبيعة الحال تجاهل التصرفات البعيدة كل البعد عن كل ما هو حضاري في هذا العالم والتي يمارسها مهاجرون إلى أوروبا.
كان ربط ماكرون بين صعود اليمين المتطرف الأوروبي والغزو الروسي لأوكرانيا في محله، علماً أنّ ممارسات الرئيس الفرنسي منذ وجوده في قصر الإليزيه لم تساعد كثيراً، لا في مجال مواجهة لوبان ولا في مواجهة الجيش الروسي في أوكرانيا.
الأكيد أنّه لا يمكن لوم فرنسا وحدها على استمرار التهديد الروسي لأوكرانيا، بل ان هذا اللوم يمكن أن يوجه لمعظم الدول الأوروبية التي لم تستطع استيعاب أنّ بوتين يجسد نوعاً جديداً من النازية عبر إيمانه بأن مستقبل روسيا ودورها على الصعيد العالمي مرتبطان بسيطرتها على أوكرانيا وإخضاعها.
كذلك، لا يمكن تجاهل التباطؤ الأميركي في دعم الشعب الأوكراني الذي قدم تضحيات كثيرة منذ بدء الهجوم الروسي على هذا البلد المهم بالنسبة إلى أوروبا كلها في 24 فبراير 2022.
ستكون نتائج الانتخابات التي دعا إليها ماكرون رسالة في غاية الأهمية بالنسبة إلى أوروبا والعالم، خصوصاً أن اليمين المتطرف الأوروبي على استعداد للتخلي عن أوكرانيا.
لا يأبه هذا اليمين لمعنى سقوط أوكرانيا تحت الهيمنة الروسية وأبعاد ذلك. مثل هذا السقوط سيفتح شهية بوتين الذي يحلم باستعادة امجاد الاتحاد السوفياتي الذي بقي يسيطر على دول أوروبا الشرقية بين 1945 وخريف 1989 عندما سقط جدار برلين وتحررت تباعا كل من ألمانيا الشرقية وبولندا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا وهنغاريا وبلغاريا.
ترافق ذلك مع تحرّر دول البلطيق الثلاث لتوانيا واستونيا ولاتفيا. كذلك، تحررت اوكرانيا. هل يقول الشعب الفرنسي إنّ هناك فرنسا أخرى غير مستعدة للرضوخ للغرائز التي يثيرها اليمين المتطرف أو اليسار الذي على رأسه أشخاص مثل جان لوك ميلونشون تصب تصرفاتهم في خدمة أقصى اليمين؟
يكشف استمرار الهجوم الروسي الذي يستهدف أوكرانيا أخطاراً كبيرة في عالمنا هذا وليس على دول أوروبا فقط. لا تكمن المشكلة في ممارسات اليمين الأوروبي المتطرف فحسب، بل تكمن أيضاً في وجود تحالف روسي - صيني - إيراني يبدو هذا اليمين المتطرف على استعداد للتغاضي عنه، بل لإنكار وجوده.
ما كان لروسيا متابعة حربها على أوكرانيا لولا الدعم الصيني الخفي لها، وهو دعم يشير إليه حصول الجيش الروسي على أسلحة وذخائر من كوريا الشمالية.
ليست سرّاً العلاقة بين كوريا الشمالية والصين التي تشجع ممارسات بيونغ يانغ، بما في ذلك في المجال العسكري. ليس سراً أيضاً تزويد إيران لروسيا بالمسيّرات كي يبقى تهديدها لأوكرانيا قائماً. من لديه أدنى شك في الحلف الروسي - الإيراني يستطيع العودة إلى التقاء طهران وموسكو عند دعم النظام السوري الذي يشنّ حرباً على شعبه منذ مارس من العام 2011.
لا يمكن عزل صعود اليمين الأوروبي عن صعود اليمين في أماكن عدة من هذا العالم، بما في ذلك إسرائيل. استفاد اليمين الإسرائيلي من ممارسات حركة مثل «حماس» ليحاول، عبر بنيامين نتنياهو وحلفائه مثل ايتمار بن غفير وبتسئيل سموتريتش، تصفية القضية الفلسطينية بدءاً بإزالة غزّة من الوجود.
لذا ليس ما يشير إلى أنّ حرب غزّة يمكن أن تنتهي قريباً مع كل ما جرت إليه من مآس.
يبقى أخيراً أنّ البعد الناجم عن صعود اليمين الأوروبي مرشح لأن يأخذ منحى أكثر خطورة في حال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. يبدو ترامب مستعداً للتخلي عن أوروبا وحلف شمال الأطلسي، كما يبدو مستعداً لصفقة مع بوتين.
هل يكتمل انتصار اليمين الأوروبي في انتخابات البرلمان الإوروبي بانتصار دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية مطلع نوفمبر المقبل؟