قد نكون غدا، او بعده بيوم او يومين، في وداع دونالد ترامب، سياسيا، او في احتفاء، يقيمه البعض، ببقائه في البيت الأبيض اربع سنوات أخرى. سيحتفي به بعضهم علما انّ دونالد ترامب قد يكون في ولايته الثانية مختلفا عن الرئيس الذي كانه في الولاية الأولى. سيعود ذلك، على الأرجح، الى اسباب مرتبطة اوّلا باضطراره الى التركيز على الوضع الاقتصادي الاميركي والاضرار التي أحدثها وباء كورونا (كوفيد19) في ظلّ إدارة لم تقدّر مند البداية مدى خطورة انتشاره.
خرج ترامب من الرئاسة ام لم يخرج، يظلّ الرجل ظاهرة سياسية استثنائية ليس على الصعيد الداخلي الأميركي فحسب، بل على صعيد العالم كلّه. ارتكب ترامب أخطاء كثيرة، بما في ذلك الابتعاد عن أوروبا. لكنّ ما فعله في مجالات محدّدة، مثل المواجهة مع ايران، لا يستطيع غيره فعله بدءا بتمزيق الاتفاق في شأن ملفّها النووي وانتهاء بفرض عقوبات على النظام، وهي عقوبات سيصعب كثيرا على ايّ إدارة جديدة الغاءها بسهولة.
كشف ترامب من خلال العقوبات ثمّ من خلال تصفيته لقاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الإيراني ان ايران ليست سوى نمر ورق وانّ كلّ ما استطاعت عمله وتحقيقه من إنجازات في السنوات الـ41 الماضية، كان بسبب التخاذل الأميركي في التعامل معها والتصدي لمشروعها التوسّعي. قد يكون ذلك عائدا الى حسابات أميركية. من بين هذه الحسابات الإصرار الإيراني على متابعة الحرب مع العراق طوال ثماني سنوات. ادّى ذلك الى استنزاف العراق وايران في الوقت ذاته، إضافة الى ابتزاز أميركي مكشوف لدول الخليج العربي!
قبل كلّ شيء، لا بدّ من الاعتراف بانّ فرص فوز الديموقراطي جو بايدن على ترامب ما زالت اكبر من فرص فوز ترامب الذي عانى في السنة الأخيرة من ولايته من عجز عن مواجهة وباء كورونا. على الرغم من ذلك كلّه، وعلى الرغم من استطلاعات الرأي، لا يمكن القول ان فرص ترامب معدومة. هناك خبراء في استطلاعات الرأي العام الأميركي يتوقفون عند ظاهرة في غاية الاهمّية مرتبطة بشخص دونالد ترامب.
يتوقف هؤلاء عند ان نسبة الخطأ في نتائج استطلاعات الرأي ارتفعت أخيرا الى 9 وحتّى 10 في المئة من 2 الى 3 في المئة. هذا عائد، بكل بساطة الى ان مؤيدين لترامب يرفضون الاعتراف بانّهم سيصوتون له وذلك من زاوية المظهر الاجتماعي، اذ لا يليق بهؤلاء الاعتراف العلني بانّهم مع سياسي يعتمد الشعبوية اكثر من ايّ شيء آخر. إنّهم بكل بساطة يخجلون من ذلك، علما انّهم مغرمون بشعبوية ترامب وكلامه المباشر واسلوبه في ادارة الأمور داخل الولايات المتحدة وخارجها.
سيظل دونالد ترامب رئيسا مختلفا بسبب طريقة تعاطيه مع ايران اوّلا. شذّ عن كل قواعد التعاطي معها منذ عهد جيمي كارتر الذي ارتضى في العام 1979 الوقوف موقف المتفرّج من احتجاز 52 ديبلوماسيا اميركيا في طهران طوال 444 يوما. فتح بذلك الطريق امام تنمّر إيراني على دول المنطقة وعلى الإدارة الأميركية بالذات. لم يكن الجمهوري رونالد ريغان افضل من كارتر. اجبرته ايران في نهاية المطاف على الانسحاب من لبنان في اواخر العام 1983 بمجرّد تفجير مقرّ المارينز قرب مطار بيروت مما ادّى الى مقتل ما يزيد على 250 عسكريا اميركيا في أسوأ حادث من نوعه منذ حرب فيتنام. تبيّن لاحقا انّ صفقة عقدت من تحت الطاولة بين المشرفين على الحملة الانتخابية لريغان، ابرزهم بيل كايسي من جهة، ومسؤولين إيرانيين من جهة أخرى. عقدت الصفقة قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني – نوفمبر 1980. بموجب الصفقة، تجري الانتخابات الأميركية، فيما الديبلوماسيون الاميركيون محتجزون، كون اطلاق هؤلاء سيكون انتصارا لكارتر يسمح له بالفوز في الانتخابات الرئاسية والحصول على ولاية ثانية.
ساير ريغان ايران قدر المستطاع، بل سار معها في إطالة الحرب بينها وبين العراق. لم يوقف الحرب آية الله الخميني، مجبرا على تجرّع كأس السمّ، الّا بعدما تمادت ايران وبدأت تهدّد الاستقرار في منطقة الخليج كّلّه.
انشغلت إدارة بوش الاب بين بداية 1989 وبداية 1993 بحرب اخراج العراق من الكويت في وقت انكفأت فيه ايران وراحت تتفرّج على هزيمة خصمها صدّام حسين الذي قرّر الانتحار يوم قرّر دخول الكويت في الثاني من آب – أغسطس 1990. امّا بيل كلينتون الذي خلف بوش الاب، فكانت ايران آخر همومه ورفض اخذ العلم بالدور الذي لعبته في افشال ما كان املا، ولو خافتا، في تحقيق سلام في الشرق الأوسط بعد توقيع اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض.
شيئا فشيئا، استعاد المشروع التوسّعي الإيراني حيويته بفضل جورج بوش الابن الذي خلف كلينتون. عرفت ايران كيف التعاطي مع غزوتي واشنطن ونيويورك في الحادي عشر من أيلول – سبتمبر 2001 اللتين يقف خلفهما تنظيم "القاعدة" وزعيمه أسامة بن لادن. شاركت ايران في قطف ثمار الغزوتين وتصوير نفسها في صف المقاوم للارهاب. شاركت الاميركيين في حرب أفغانستان وشاركت في حرب العراق في 2003. كافأها بوش الابن بتسليمها العراق على صحن من فضّة ثم كافأها باراك اوباما عبر اختزال كلّ مشاكل المنطقة وازماتها بالملفّ النووي الإيراني. الاهمّ من ذلك كلّه، انّ أوباما ركّز على انّ الإرهاب في المنطقة والعالم "سنّي" وانّ "داعش" افضل تعبير عنه، فيما الميليشيات التابعة لايران، والتي تمثّل الوجه الآخر لـ"داعش" مجرّد جمعيات خيرية!
كان دونالد ترامب رئيسا اميركيا مختلفا. كسر كلّ القواعد التي وضعها اسلافه في ما يخصّ ايران. اذا دخل التاريخ يوما، سيدخله من هذه البوابة، بوابة إستعادة الولايات الثقة بنفسها والوقوف مع حلفائها في الخليج العربي. لا شكّ انّ دول الخليج العربي، في مقدّمها المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين استعدت لمرحلة ما بعد ترامب من منطلق ان هناك مشروعين جدّيين يهددان المنطقة، من المحيط الى الخليج، هما المشروع الإيراني والمشروع التركي.
من هذا المنطلق، كان لا بدّ من الاستعداد لكلّ احتمالات ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية التي قد يخرج منها جو بايدن فائزا. أتى بايدن رئيسا ام لم يأت. من المفترض في دول المنطقة الّا تكون تحت رحمة ايّ طرف خارجي في مواجهات التحديات التي تواجهها بغض النظر عمّن سيكون المقيم في البيت الأبيض. يبقى ترامب او لا يبقى... ليست تلك المسألة. لكن ما لا مفرّ من الاعتراف به انّه صنع في السنوات الأربع الاخيرة فارقا كبيرا مع ايران.