بقلم : د. وحيد عبدالمجيد
أضفى قرار توجيه الاتهام رسمياً ضد رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إثارة إضافية على مشهد عجز الأحزاب عن الاتفاق على تشكيل حكومة جديدة للمرة الثانية خلال أقل من عام. وأصدر المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية هذا القرار بعد ساعات على إعلان رئيس حزب «أزرق-أبيض» (كاحال-لاتون)، وهو «بيني غانتس»، مساء 21 نوفمبر الماضي عدم قدرته على تشكيل هذه الحكومة، بعد أن عجز نتنياهو قبله. فقد انتهت المهلة المحددة قانوناً لرئيس الحزب الذي لديه أكبر كتلة في الكنيست، والحزب الذي يليه، بدون أن يتمكن أي منهما من تكوين ائتلاف يحظى بدعم 61 على الأقل من إجمالي 120 عضواً في الكنيست.
ولذا، لن يكون هناك بديل عن التوجه إلى انتخابات ثالثة خلال عام واحد، بعد أن تنتهي اليوم الأسابيع الثلاثة المتاحة لكي يرشح 61 عضواً أي شخص لتشكيل حكومة، ويتعهدوا بمنحها الثقة عند الاقتراع عليها.
وهذه المرة الأولى التي يتعذر فيها تشكيل حكومة منذ 1948. فعلى مدى 70 عاماً، لم تكن هناك صعوبة تمنع تشكيل حكومة بعد أي من انتخابات الكنيست العشرين التي أُجريت بين نهاية عام 1948 ومطلع عام 2015. كان حزب «ماباي»، ثم «العمل»، قادراً على تشكيل حكومات بقيادته على مدى ثلاثة عقود عبر بناء ائتلافات مع أحزاب يسارية، وأخرى دينية. وبعد مرحلة أخذ فيها النظام الحزبي الإسرائيلي طابعاً ثنائياً، وشهدت تنافساً قوياً بين حزبي «العمل» و«ليكود» في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، تحول هذا النظام إلى الأحادية مجدداً، لكن بقيادة حزب «ليكود» وقوى اليمين منذ 2001، باستثناء الفترة بين 2006 و2008، حيث أتاحت نتيجة انتخابات الكنيست السابعة عشرة لحزبي «العمل» و«كاديما» قيادة ائتلاف يسار الوسط. ولم تكن هناك حاجة للعودة إلى صناديق الاقتراع عندما صعد «كاديما» إلى المركز الأول في تلك الانتخابات متقدماً على «ليكود» و«العمل»، بخلاف ما يحدث الآن منذ صعود حزب «أزرق-أبيض» ومشاركته في صدارة الخريطة الحزبية. فقد تيسر تشكيل ائتلاف بين حزبي «كاديما» و«العمل» وأحزاب أخرى. وقل مثل ذلك عندما جاء حزبا «كاديما» و«ليكود» في مقدمة انتخابات الكنيست الثامنة عشرة، بفرق صوت واحد لمصلحة الأول (28 مقابل 27). وهذا وضع مشابه لنتيجة انتخابات الكنيست الثاني والعشرين في 17 سبتمبر الماضي، إذ حصل حزب «أزرق-أبيض» على 33 مقعداً، و«ليكود» على 32 مقعداً. لكن محاولات تشكل حكومة عقب هذه الانتخابات أخفقت، مثلها مثل تلك التي أعقبت انتخابات الكنيست الحادي والعشرين في 9 أبريل الماضي، وأسفرت عن حصول «ليكود» على 36، و«أزرق-أبيض» على 35 مقعداً.
والأرجح أن الفرق بين حالتي صعود «كاديما» في انتخابات 2006 و2009، و«أزرق-أبيض» في انتخابات أبريل ثم سبتمبر 2019، لا يعود إلى هيكل الخريطة الحزبية بالدرجة الأولى، بل إلى حالة المنطقة وموقع إسرائيل فيها. فقد أحدث تفاقم الصراعات في بعض الدول العربية منذ بداية العقد الجاري، وتحول بعضها إلى حروب داخلية إقليمية دولية، تغيراً جيوبوليتيكياً لمصلحة إسرائيل التي أصبحت في وضع مريح وكافٍ لخلق شعور بالاطمئنان لدى قادة أحزابها. والأرجح أن هذا الشعور أوجد ترفاً في سلوك الأحزاب، خاصة في ظل إدارة أميركية تُعد الأكثر انحيازاً لإسرائيل طول تاريخها. وقد ظهر هذا الترف في أداء قادة الحزبين الحاصلين على أكبر عدد من المقاعد في انتخابات أبريل وسبتمبر 2019، والحزب الذي يقوم بدور بيضة القبان «إسرائيل بيتنا»، ورئيسه الذي صار «صانع الملوك». فقد أصر كل منهم على التمسك بشروطه كاملة، ولم يقدم أي منهم تنازلاً واحداً، فانعدمت إمكانات المساومة الحزبية اللازمة لتشكيل ائتلاف حكومي.
ولم يتصرف أي حزب بهذه الطريقة من قبل، بل كان الاستعداد للمساومة أحد معالم السلوك السياسي الإسرائيلي الداخلي، سواء في مرحلة النظام الحزبي الثنائي حيث شُكلت حكومتا وحدة بين «ليكود» و«العمل» عامي 1984 و1988، أو في مرحلة صعود «كاديما» في منتصف العقد الماضي، لأن إسرائيل لم تكن حينئذ في مثل وضعها المريح حالياً على المستويين الإقليمي والدولي.