بقلم : د. وحيد عبدالمجيد
منذ إعلان خطة البيت الأبيض، التي تحمل رسمياً اسم «السلام مقابل الازدهار» في 28 يناير الماضي، تتوالى ردود فعل فلسطينية، وعربية أخرى، يُعاد إنتاج محتواها الأساسي أو جوهرها، منذ مشروع وزير الخارجية الأميركي الأسبق وليم روجرز عام 1969. تختلف الصياغات، وبعض التفاصيل، لكن جوهرها لا يتغير. اتهامات في اتجاهات شتى، وحديث عن مؤامرات تهدف إلى تصفية قضية فلسطين.
وفيما تتفاوت ردود الفعل هذه في كل مرة طُرحت مبادرة للتفاوض، على مدى نحو نصف قرن، يغيب التفكير في إجراء مراجعة جادة لأداء الحركة الوطنية الفلسطينية، وحدود مسؤوليته عن الضعف الذي أصاب ويصيب القضية يوماً بعد آخر، وعن ضياع فرص لاحت لها مرات عدة، فصار سقف ما يُطرح عليها في كل مبادرة أدنى من سابقه.
ومنهجياً، يتعذّر فهم مسار الظواهر المهمة في عالمنا، بما فيها قضية فلسطين وتفسيرها، اعتماداً على العوامل الدولية وحدها. فهذه العوامل مؤثرة بطبيعة الحال. وكان لها، ومازال، أثرها القوي في مسار قضية فلسطين لأسباب، منها أنها كانت مُدولة منذ إرهاصاتها الأولى، بفعل الانتداب البريطاني الذي أعقب إنهاء الهيمنة العثمانية، والهجرات اليهودية المتوالية في النصف الأول من القرن الماضي، ثم نجاح إسرائيل في كسب تعاطف الغرب عامة، والولايات المتحدة خاصة، منذ منتصف القرن نفسه.
لكن تأثير أي عامل دولي، مهما تبلغ أهميته، يتوقف على أداء المتأثر به، وإلى أي مدى يمتلك رؤية واضحة، ويستطيع تطويرها وتنميتها، وهل لديه خطط عمل متكاملة، من عدمه. فهذا الأداء هو الذي يمكن أن يُدعم المناعة الذاتية اللازمة للحد من أثر العوامل الدولية، حتى إذا انطوت على مؤامرات أو نوايا سيئة. فهل كان أداء الحركة الوطنية الفلسطينية، ومؤسساتها، من النوع الذي يُدعم مناعة قضية حظيت بتفهم دولي واسع بين خمسينيات القرن الماضي وسبعينياته، رغم نجاح إسرائيل في كسب تعاطف الغرب، وأصدرت لمصلحتها القرارات في إطار الأمم المتحدة؟ الجواب واضح في مصير هذه القرارات الآن، ومدى اهتمام من ساهموا في إصدارها بإحيائها.
ولذا، فقد حان الوقت لمراجعة اختلالات وأخطاء متراكمة لا يتسع المجال لها، لكن يبرز في مقدمتها الميل إلى التفتت المستمر، والصراعات المقترنة به. فقد أعاق هذا التفتت في بدايته وجود جبهة كبيرة قوية موازية لحركة «فتح» تؤدي دوراً تصحيحياً، بعد الانشقاقات التي ضربت «الجبهة الشعبية»، وأفقدتها القدرة على أداء هذا الدور، وأدت إلى تكاثر الجبهات اليسارية مثل «الجبهة الديمقراطية»، و«الجبهة الشعبية -القيادة العامة»، وغيرها. كما قاد هذا التفتت، في آخر مراحله، إلى الانقسام المأساوي الذي تسببت به حركة «حماس»، بعد أن أصبح الاستعداد راسخاً للتعايش مع أي مستوى من الصراعات بين الفلسطينيين.
وأدت إساءة استخدام الأموال الوفيرة، التي تدفقت على منظمة التحرير ووُزعت على الجبهات المنضوية تحتها، إلى عدم تحقيق الهدف الذي ابتغاه مانحوها، وهو دعم القضية وتوفير النفقات اللازمة لإعلاء مكانتها في العالم. وترتب على هذه الإساءة أيضاً ربط الولاءات بالتمويل أكثر من الانتماء، الأمر الذي ساهم في إضعاف عمل وطني يفترض أن يقوم على البذل والعطاء والتضحية، من دون انتظار مقابل سوى التقدير المعنوي والإنجاز. وليست مصادفة، والحال هكذا، أن أكثر حركات التحرير الوطني ثراءً في القرن الماضي هي الأكثر فشلاً بين هذه الحركات. وربما كان من أخطر تداعيات الثراء المالي، الذي نعمت به منظمة التحرير والكيانات التابعة لها في السبعينيات والثمانينيات، حدوث اندفاع غير معقول للسيطرة، وربما لانتزاع السلطة في الأردن في الستينيات، ثم بناء مناطق نفوذ في لبنان «فتح لاند» تحت شعار أن تحرير القدس يمر عبر عمّان أو لبنان، أي استغلال هذا المال في اتجاه مخالف تماماً لما خُصص أصلاً.
ولذا، أصبح ضرورياً دراسة تجربة هذه الحركة سعياً إلى معرفة لماذا غاب التخطيط، وضعُفت الرؤية، وكثرت القرارات العشوائية، وبالتالي الأخطاء التي آن أوان مراجعتها بصدق وجدية، أملاً في أن تكون هناك فرصة كافية لتصحيح مسار طويل جاءت خطة واشنطن نتيجة له، بالتزامن مع دراسة هذه الخطة لإعداد تصور متكامل بشأنها، يتضمن بدائل تُقدم إلى المجتمع الدولي بطريقة موضوعية ومنهجية تدخل العقل، بدلاً من الخطب والشعارات الرنانة التي تخرج من الأذن.