إن تجربة فرنسا السياسية منذ الانتخابات التشريعية التي جرت في شهر يوليو (تموز) الماضي، وحتى ترشيح ميشال بارنييه لتشكيل الحكومة الجديدة، تقول إنه يمكن ممارسة «ألاعيب ديمقراطية» تحترم القواعد القانونية والدستورية القائمة، ولكنها لا تعبِّر بشكل كامل عما جاء في «صندوق الاقتراع» ولا نتيجة التصويت الشعبي قبل إعلان النتائج.
والحقيقة أن «اللعبة الأولى» حدثت عقب إعلان نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية التي جاء فيها حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف في المرتبة الأولى، بعد أن حصل على نحو 33 في المائة من أصوات الناخبين، يليه تحالف اليسار المتمثل في «الجبهة الشعبية الجديدة» وحصل على نحو 28 في المائة من الأصوات، ثم حل حزب الرئيس إيمانويل ماكرون ثالثاً، وحصل على 20 في المائة، وأخيراً جاء حزب «الجمهوريين الديغولي» رابعاً، وحصل على 10 في المائة من الأصوات، والذي ينتمي إليه رئيس الوزراء المكلف بارنييه.
والجولة الثانية لا يحسمها فقط التصويت الشعبي؛ إنما أيضاً حجم التحالفات و«التربيطات» السياسية التي تقوم بها الأحزاب والكتل المختلفة في مواجهه تيار أو حزب بعينه، وهو ما حدث في فرنسا بين كل القوى السياسية، في مواجهة مرشحي اليمين المتطرف ممثلاً في حزب «التجمع الوطني» وحلفائه.
والمعروف أن قانون الانتخابات في فرنسا يجعل الإعادة بين كل من حصل في الجولة الأولى على 12.5 في المائة من أصوات الناخبين، بما يعني أن الإعادة يمكن أن تكون بين 4 أو 5 مرشحين، وهنا توافقت أحزاب تحالف اليسار في «الجبهة الشعبية» مع تحالف اليمين المؤيد للرئيس ماكرون، على شعار «السد الجمهوري» (Le barrage republican) أي تحالف كل القوى السياسية تقريباً من اليمين واليسار، والتي تعد نفسها مدافعة عن مبادئ الجمهورية، في مواجهة مرشحي أقصى اليمين الذي يعد مهدداً لهذه المبادئ.
وقد تُرجم هذا «السد» انتخابياً، في السماح للمرشح الذي حصل على أعلى الأصوات فقط بخوض جولة الإعادة في مواجهة أقصى اليمين، وسحب بقية المرشحين، وهو ما عظَّم من فرص فوزه، وخسر أقصى اليمين نحو 100 مقعد في جولة الإعادة، بفضل هذه التعبئة وهذا التنسيق السياسي والانتخابي.
وهنا قد تكون الأصوات التي حصل عليها أقصى اليمين أكبر من أصوات بقية الأحزاب، وهو ما حدث بالفعل، ولكن ما جرى عملياً في أرض الواقع أن هذا «الاتفاق الديمقراطي» الذي لا يجرِّمه الدستور والقانون بين الأحزاب المناوئة لأقصى اليمين، جعل النتيجة تخرج مخالفة لنسبة التصويت الشعبي الذي حصل عليه ووضعته في المرتبة الأولى بين القوى السياسية.
وجاءت نتيجة الجولة الثانية مخالفة للأولى، بفضل هذا التربيط السياسي والانتخابي. فقد حصلت «الجبهة الشعبية الجديدة» على 182 مقعداً، بجانب 12 مقعداً ليساريين مستقلين، ثم جاء تحالف «معاً» الذي يقوده حزب ماكرون (النهضة) في المرتبة الثانية، وحصل على 168 مقعداً، ثم جاء حزب «التجمع الوطني» في المرتبة الثالثة، وحصل على 143 مقعداً، وأخيراً جاء حزب يمين الوسط الديغولي (الجمهوريون) وحصل على 66 مقعداً، بجانب 6 مقاعد لمستقلين.
وجاءت «اللعبة الثانية» الأسبوع الماضي، حين كلف الرئيس الفرنسي السياسي المخضرم ميشال بارنييه بتشكيل الحكومة الجديدة، رغم أنه ينتمي لحزب «الجمهوريين» الذي يمثل التكتل السياسي الأضعف بين «الأربعة الكبار» الذين يشكلون البرلمان الفرنسي.
صحيح أنه ينتمي ليمين الوسط الديغولي الذي كان يعد التيار الأكبر في فرنسا، منذ أن أسس الجنرال ديغول الجمهورية الخامسة عام 1958 ولمدة نصف قرن، قبل أن يبدأ في التراجع في عهد الرئيس الأسبق ساركوزي، وصحيح أنه وزير سابق وسياسي لديه احترام وسمعة أوروبية طيبة وأداء مهني رفيع، فقد قاد مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) بمهارة شديدة؛ إلا أنه في النهاية لا ينتمي للحزب أو التكتل الأكبر الذي جرى العرف أن يختار رئيس الجمهورية الحكومة منه.
وصحيح -أخيراً- أن النص القانوني والدستوري لا يمنع رئيس الجمهورية من كسر العرف السائد، ما دام سينال برنامج حكومته ثقة البرلمان، إلا أن «العرف الديمقراطي» تراجع أمام «الألاعيب الديمقراطية»، واختار ماكرون رئيساً للوزراء ينتمي للتكتل الأضعف داخل البرلمان.
وتأتي المفارقة الكبرى من كون كل من التحالف المؤيد للرئيس وحزب «الجمهوريين» لن يستطيعا أن يصلا إلى 289 مقعداً، وهي النسبة المطلوبة لكي يوافق البرلمان على برنامج الحكومة ويعطيه ثقتها. ويبدو أن هناك خطاً ساخناً قد فُتح بين الرئيس وحزب أقصى اليمين لإعطاء الثقة لبارنييه، بما يعني أن هذا «السد الجمهوري» الذي تشكَّل لمواجهة اليمين المتطرف في الانتخابات التشريعية قد تلاشى حين تغيرت حسابات المصالح السياسية، وصار بقاء حكومة ماكرون رهينة بدعم أقصى اليمين الذي عدَّ هزيمته في الانتخابات أحد مظاهر الحفاظ على الجمهورية الفرنسية.