بقلم:عمرو الشوبكي
الانتخابات التي أُجريت في أكثر من عاصمة أوروبية تقول إن هناك تحولاً ثقافياً وسياسياً حدث في هذه البلدان، وأن الصور التي خرجت من الحملات الانتخابية ومؤشرات تصويت المناطق والكتل الانتخابية تقول إن الانقسام بين القوى السياسية لم يعد فقط حول البرامج الاقتصادية والسياسة الخارجية والضرائب والهجرة وغيرها، إنما أصبح هناك انقسام أعمق حول الجمهور الذي يستهدفه كل حزب، وصار الموقف من الأوروبيين من أصول جنوبية أحد أبرز مظاهر هذا الانقسام.
وقد تكون المقارنة بين ظروف نشأة وخطاب أحزاب يسار ويمين الوسط، وبين الأحزاب التي باتت حالياً جزءاً من ظاهرة «الجنوب العالمي» Global South، وبخاصة حين نقارن بين تجربتي الحزب الاشتراكي الفرنسي وحزب فرنسا الأبية، سنجد أن هناك تحولاً كبيراً في شكل الخطاب ومضمونه وطبيعة الجمهور المستهدف من قِبل كلا التيارين.
والحقيقة أن تجربة أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية كانت تقول إن الأحزاب اليسارية واليمينية التي تأسست في ذلك الوقت، لم يكن في مخيلة كثير من قادتها أن المهاجرين الذين تبارى اليمين واليسار إلى جلبهم من بلدان المستعمرات القديمة لكي يساهموا في إعادة بناء ما دمرته الحرب في أوروبا، أن جانباً كبيراً من أبنائهم وأحفادهم سيصبحون مواطنين أوروبيين وسيشكلون أحد الأسباب الرئيسية وراء الاستقطاب السياسي والانتخابي، بخاصة أن موجات الهجرة ظلت تتوالى على أوروبا حتى منتصف الثمانينات من دون قيود كبيرة.
والحقيقة أن الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي ظهر في بداية عام 1960 وحمل اسم الحزب الاشتراكي الموحد، انشغل بقضية أساسية هي بناء تيار سياسي يساري يختلف عن النموذج الستاليني في الاتحاد السوفياتي الذي كان له أنصار داخل الحزب الشيوعي الفرنسي وخارجه. وصحيح أن الاشتراكيين أيّدوا استقلال الجزائر وتعاطفوا مع قضايا الجنوب، إلا أنه ظل من موقعهم كحزب غربي يضم أساساً أصحاب البشرة البيضاء، وتكرر الأمر نفسه حين اتحد هذا التيار مع تيار الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران وأسسا في عام 1971 الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي ظل حزباً يسارياً أوروبياً يتعاطف مع قضايا الجنوب والمهاجرين الذين كانوا في ذلك الوقت لا يطرحون الأسئلة نفسها ولا يثيرون المشاكل ذاتها التي يثيرها المهاجرون اليوم.
إن التحول السياسي والانتخابي الذي شهدته فرنسا وكثير من الدول الغربية بدأ مع وجود كتلة تصويتية كبيرة من أبناء وأحفاد المهاجرين ممن حملوا جنسية البلد الجديد، وصاروا مواطنين لهم حق الترشح والانتخاب، وهنا بدأت الخريطة السياسية في التغير وأصبح الموقف منهم يشكل أحد أوجه الانقسام السياسي والتنافس الحزبي والانتخابي في أوروبا.
إن حزب اليمين المتطرف (التجمع الوطني) يعتمد على تصويت الخائفين من المهاجرين والرافضين لهم والمتشككين في انتماء الفرنسيين من أصول عربية «للعلمانية الفرنسية» والذين في قدرتهم أن يصبحوا مواطنين «كاملين» مثل الفرنسيين «الأصليين» من أصحاب البشرة البيضاء.
يقابل هذا المخزون الانتخابي الكبير لأقصى اليمين، مخزون آخر أقل حجماً من الأوروبيين ذوي الأصول المهاجرة، وهنا سنجد أن حزب فرنسا الأبية بقيادة ميلنشون أصبح المخزون السياسي والانتخابي «للجنوب العالمي» المتمثل في أصوات ملايين الفرنسيين من أصول عربية وأفريقية الذين صوّت كثير منهم له.
صحيح أن لديه أيضاً برنامجاً يسارياً يقوم على عدم شيطنة الهجرة وزيادة الضرائب على الأثرياء والشركات الكبرى ورفع الحد الأدنى للأجور، وهنا لم يختلف جوهرياً عن برنامج الحزب الاشتراكي، ولكنه اختلف معه في التعامل مع الفرنسيين من أصول مهاجرة.
مثير تحليل خطاب ميلنشون أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة، فالرجل ركز بشكل أساسي على أحقية أبناء المهاجرين من الفرنسيين في العدالة والمساواة، ولم يبالغ كثيراً حين قال في أحد مؤتمراته: «حين كنت شاباً كانت تقريباً نسبة الفرنسيين من أصول مهاجرة 1 إلى 10، أما الآن فقد أصبحوا 1 إلى 4»، وأضاف: «آباؤكم وأجدادكم بنوا فرنسا وإياكم أن تقبلوا من أحد أن يفرزكم على أساس أصولكم العرقية أو يعتبر أن حقوقكم أقل من باقي الفرنسيين». وختم حديثة معلقاً على قلة عدد المشاركين في الجولة الأولى من الانتخابات باستخدام كلمة عربية: «حشومه».
الانقسام حول كتل الأوروبيين من أصول مهاجرة أصبح واقعاً، صحيح أنهم لا يحملون جميعاً موقفاً سياسياً واحداً، لكن هناك من يرى نفسه جزءاً من المنظومة الثقافية والاجتماعية الغربية، إلا في ملامح وجهه المختلفة، كما كانت حالة رئيس وزراء بريطانيا السابق ريشي سوناك وغيره في أوروبا وفرنسا. إلا أن من المؤكد هناك كتلة جديدة وكبيرة وجدت أحزاباً تخاطبها وأجنحة داخل أحزاب كبرى تتعاطف مع قضاياها (الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي الأميركي)، وكلهم أصبحوا جزءاً من مشهد جديد ما زال تأثيره على الشمال والجنوب في بداياته.