بقلم - مصطفى الفقي
«يجب أن أكتب لك مقدمة كتابك على قطعة من حجر الجرانيت الذى استخدمه أجدادك الفراعنة لتشييد الحضارة وبناء المجد، فملك القلوب كما سمتك الملكة الراحلة إليزابيث الثانية هو أيقونة إنسانية نعتز بها جميعًا ونرى أن سيرته الذاتية هى ذخيرة أكاديمية وأخلاقية للأجيال القادمة.
إن مجدى يعقوب شخصية استثنائية فى تاريخ العلم والطب الذى يسعى نحو رفع المعاناة عن البشر ورعاية صحة الإنسان من خلال أكثر الأجهزة أهمية فى جسده ونعنى بها القلب مركز الوجدان وغرفة المشاعر.
لذلك تجسد رحلة هذا الرائد العظيم قيمة الجراح العالمى الذى استطاع زرع القلب البديل فى فترة مبكرة من الجهد العلمى الطبى العالمى فوضع اسمه بين عظماء ذلك الفرع من الدراسات الطبية والعمليات الجراحية الكبرى التى اقترنت باسمه وسوف تبقى رصيدًا له مهما طال الزمن، إنه طبيب الفقراء فى مصر والقارة الإفريقية وغيرها من بقاع الدنيا.
وإذا كانت بريطانيا قد كرمته بلقب (سير) ومصر كرمته بـ(قلادة النيل) فإن قلوب مرضاه عبر العقود الأخيرة تنادى دائمًا به أسطورة رائعة ورمزًا حيًا للإنسانية والتواضع ورفع المعاناة عن البشر.. بارك الله فيه ليستمر عطاؤه إضافة لجهود أجداده من بناة الحضارة وصناع التاريخ ورواد العلم والمعرفة، نعم.. بارك الله فيك ولك ودمت للبشرية رمزًا لا ينتهى، وعطاءً لا يتوقف، واسمًا تردده الأجيال».
تلك كانت المقدمة التى نشرتها بعد أن شرفنى الطبيب الرائع والعالم الفذ مجدى يعقوب بأن أشترك مع العالمين الكبيرين د. محمد غنيم رائد طب الكلى فى مدينة المنصورة والدكتور محمد أبوالغار رائد طب أمراض النساء والإنجاب والعالم الموسوعى، بأن أشترك معهما فى كتابة تلك المقدمة فى الصفحات الأولى ثم الختامية للطبعة العربية من مذكراته التى تستحق القراءة عدة مرات لأن فيها زخما من السيرة الذاتية لهذا الإنسان المتفرد الذى أنجبته مصر ودفعت به إلى المجتمع الدولى لكى يكون رمزًا مبهرًا وعلامة فارقة وكأنه مبعوث الطب الفرعونى إلى القرنين العشرين والحادى والعشرين.
ولقد عاصرت هذا العالم الكبير منذ بداية سبعينيات القرن الماضى عندما كنت نائبًا للقنصل فى لندن، وكان هو شابًا يافعًا بدأ اسمه يتردد فى الدائرة الضيقة لطب القلب قبل أن يذيع اسمه وينتشر فى أنحاء المعمورة، وكان الرجل يأتى إلى القنصلية المصرية فى تواضع شديد ويقف فى الطابور ليحصل على تأشيرة دخول مصر لزوجته الراحلة التى كانت تحمل جواز سفر ألمانيا الغربية فى ذلك الوقت، ولفت نظرى أن ذلك الذى يبزغ نجمه ويتألق اسمه صامت بطبيعته لا يتحدث كثيرًا ويجيد فلسفة الاستماع والتركيز الهادئ ويضع أفكاره فى عبارات محددة وبصوت خافت وذكاء شديد.
ثم بدأ اسمه يتردد فى جراحة القلب المفتوح وبين الأوساط الطبية والعلمية ويتجاوزها إلى المجتمعات المختلفة والرجل يزداد تواضعًا ويتألق أكثر كلما لمعت شخصيته بنظراته الهادئة وابتسامته المميزة الودودة، ومن الذكريات التى احتفظ بها ما حكاه أمامى عن اتصال هاتفى من مكتب صاحبة الجلالة الملكة الراحلة إليزابيث الثانية أثناء إجرائه لإحدى عمليات القلب المفتوح فاضطر أن يقوم بتكليف زميل له من الطاقم بإكمال جراحة المريض وخرج ليجد سكرتير الملكة على الهاتف يقول له إن جلالتها تعرض عليك قبول لقب «سير» - وهو من أرفع درجات التكريم على الساحة البريطانية وفى أرجاء المملكة المتحدة- فقبل الدكتور يعقوب ذلك شاكرًا وبسرعة عاد للتعقيم كى يدخل غرفة العمليات ويستكمل مهمته المقدسة.
أما المرة الثانية التى فوجئ فيها باستدعاء هاتفى وهو فى غرفة العمليات فكانت عندما قيل له إن السيدة «جيهان السادات» قرينة الرئيس المصرى الراحل على الهاتف، حيث قالت له إن الرئيس السادات قد أصيب بطلقاتٍ من الرصاص أثناء العرض العسكرى وتبلغه أن طائرة خاصة سوف تكون فى مطار (هيثرو) بعد عشرين دقيقة لتقله هو والطاقم المختص إلى القاهرة للمشاركة فى محاولة إنقاذ حياة الرئيس، ويكمل الدكتور مجدى أنه رأى أن ذلك واجب وطنى مقدس فعهد لزملائه باستكمال الجراحة، خصوصًا أنها لم تكن جراحة كبرى.
وخلال عشرين دقيقة كان هو والطاقم فى سيارة تنهب أرض شوارع لندن فى الطريق إلى المطار ولكنه فوجئ بالمستشفى البريطانى يتصل به ويبلغه أن مكتب السيدة جيهان السادات قد اتصل ليشكره ولا داعى للحضور، فالرئيس السادات قد رحل عن عالمنا فى يوم الاحتفال بنصره العظيم! كل تلك ذكريات اقتنصتها من أحاديثه القليلة، فهو رجل أفعال قبل أن يكون رجل أقوال.
إن مذكرات د. مجدى يعقوب تضم صفحات من تاريخ العلم والطب معًا والمشوار الشخصى والرحلة الإنسانية لصاحبها أيضًا، كما أنها تكريم لمصر بلد الحضارات والعلوم وموطن الأفكار والفنون، والبلد الذى أنجب إنسانًا متميزًا بحجم مجدى يعقوب بأعماله وأمجاده وخدماته لله وللإنسانية جمعاء بغير تفرقة أو استثناء!.