استشراق منصف واستغراب منظم

استشراق منصف واستغراب منظم

استشراق منصف واستغراب منظم

 صوت الإمارات -

استشراق منصف واستغراب منظم

عمار علي حسن
بقلم : عمار علي حسن

ينطلق أي حوار ناجح ونافع بين أتباع الحضارات والأديان من أرضيات مشتركة، ولا يهرب من هواجس أي من أطرافه، ويلبي احتياجات المنخرطين فيه والقائمين عليه، ويتصدى لمشكلات حقيقية تواجه الجميع، وهي مشكلات آنية، تعيش بيننا، وليست تلك المطوية في دهاليز التاريخ البعيد. وهذه الأرضية وتلك المشكلات والهواجس يجب أن تشكل إطاراً للحوار، وتنبثق منها الركائز التي يهتم بها، ويدور حولها. 

وهناك حالة ظاهرة للعيان لمثل هذا الحوار بين الشرق والغرب، وفي ركابه قام حوار بين الإسلام والمسيحية، في محاولة لنفي أو دحض المقولة السائدة التي تؤكد أن «الغرب غرب، والشرق شرق، ولن يلتقيا أبدا»، وهي منسوبة للشاعر الإنجليزي روديارد كبلنج (1865- 1930).
وبدلا من هذا يمكن أن نطرح قيام استشراق منصف واستغراب منظم. والاستشراق كما يراه إدوارد سعيد هو «المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق، بإصدار تقارير حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، ووصفه، وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه... وهو أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه... وهو إنشاء استطاعت به الحضارة الغربية أن تتدبر الشرق - بل حتى أن تنتجه، سياسياً واجتماعياً وعسكرياً وعقائدياً وعلمياً وتخيلياً، حتى أصبح صعباً على أي إنسان أن يكتب عن الشرق، أو يفكر فيه، أو يمارس فعلاً متعلقاً به، من دون أن يأخذ بعين الاعتبار الحدود المعوقة التي فرضها الاستشراق على الفكر والفعل، ولا يعني هذا أن الاستشراق، بمفرده، يقرر ويحتم ما يمكن أن يقال عن الشرق، بل إنه يشكل شبكة المصالح الكلية التي يستحضر تأثيرها بصورة لا مفر منها في كل مناسبة، يكون فيها الشرق موضعاً للنقاش».
ونظراً لأن الاستشراق لم يكن كله عملياً منصفاً يروم الحقيقة، إنما رأس حربة لمشاريع استعمارية، فإنه كرس صوراً نمطية سلبية مغلوطة عن «الشرق» لا سيما عن العرب والمسلمين، مدفوعاً بالنزعتين الاستعمارية والصهيونية. وتقوم الرؤية الاستشراقية على أنه إذا كان العربي ذا تاريخ على الإطلاق، فإن تاريخه جزء من التاريخ الممنوح له أو المستلب منه. وبناء عليه ظهر العربي في الكتابات الغربية على أنه يمثل قيمة سلبية، وهو عدو للغرب، وعقبة أمكن تجاوزها لخلق إسرائيل، وارتبط في الأفلام والتلفاز على أنه شخص فاسق وغادر ومخادع ومتعطش للدماء، قادراً على المكيدة، مراوغ وسادي، ويظهر في أدوار قائد عصابات اللصوص المغيرين، والقراصنة، والعصاة من السكان الأصليين. بدوره راح الإعلام الغربي يكرس جهداً وفيراً للحملة على العرب، وتشويه صورتهم، بعد أن انتهى من تشويه صورة الزنوج والهنود الحمر وبعض الأقليات التي تعيش في أوروبا وأميركا. ووصلت هذه الصورة المشوهة إلى مناهج التعليم نفسها، في مختلف المدارس الغربية، لتصبح جزءاً من مضامين التنشئة الاجتماعية.
أما «الاستغراب»، الذي كتب الدكتور حسن حنفي مقدمة مهمة فيه، فهو دعوة حالمة متفائلة لدراسة الغرب وتفكيك ثقافته وتوجهاته، ولفهمها وهضمها، لامتلاك آليات فاعلة للتعامل معها. لكن هذه الدعوة لم تنتج تياراً عريضاً متدفقاً مثل الذي أنتجه الاستشراق، وهي ليست سوى جهود فردية متناثرة، تضرب يميناً ويساراً، بلا هدف محدد، ولا خطة ناظمة. لكنها في كل الأحوال لا تقوم على تشويه الغرب، اللهم إلا في بعض كتابات أتباع التيار الإسلامي، مثل ما كتبه سيد قطب ومحمد قطب، بل تنطوي في أغلبها على الإعجاب به، ومحاولة تمثله، والاقتداء بما أنجزه في المعارف التطبيقية والإنسانية والفنون، وفي العمران البشري، لا سيما في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان. ويحتاج حوار الحضارات إلى تصحيح الصور النمطية المغلوطة، وإلا ظل مجرد ترف نخبوي، ورتوش مزيفة، وخطابات علاقات عامة، تظهر وقت الأزمات، ويتم استخدامها مطية لأحوال السياسة وتقلباتها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

استشراق منصف واستغراب منظم استشراق منصف واستغراب منظم



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 02:38 2015 الجمعة ,02 كانون الثاني / يناير

باكستان من بين أسوأ عشر دول من حيث حرية "الإنترنت"

GMT 19:35 2013 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مطعم سياحي مفتوح للجمهور في أحد سجون لندن

GMT 09:53 2018 الأحد ,05 آب / أغسطس

ترجمة وتعريب 1000 درس في "تحدي الترجمة"

GMT 18:11 2015 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

طقس الأردن لطيف الأربعاء وغائم الخميس والجمعة

GMT 06:01 2015 الإثنين ,19 كانون الثاني / يناير

الهند تبني منشآت للطاقة الشمسية فوق القنوات للاقتصاد

GMT 18:53 2016 الإثنين ,11 إبريل / نيسان

تسريب أول صورة لهاتف "نوكيا" بنظام أندرويد

GMT 23:29 2014 الجمعة ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

شركة "واتساب" تطرح إصدارًا جديدًا بميزات إضافية جديدة

GMT 19:25 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

سيدة تخون شقيقتها مع زوجها في منطقة سيدي إيفني

GMT 00:31 2014 السبت ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

"رمان" للتطبيقات تطلق تطبيق "أنت وطفلك - فاين بيبي"

GMT 17:51 2015 الجمعة ,24 تموز / يوليو

معرض تراثي فلسطيني في أسواق بيروت القديمة

GMT 12:14 2017 الأربعاء ,26 تموز / يوليو

تطوير ملصق يعلن عن الاعتداء الجنسي وقت حدوثه

GMT 03:55 2017 الأحد ,15 كانون الثاني / يناير

صفاء حجازي تنعي وفاة الراحلة كريمة مختار " ماما نونة"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates