هل يمكن للرواية القصيرة أن تصبح مجرد مجموعة من "قصص قصيرة"؟ على المستوى النظري والتطبيقي المألوف فإن هذا غير متبع على العموم، إذ أن "النوفيلا" لا تعدو أن تكون مجرد رواية محددة العالم والشخصيات والصفحات، وهي تتهادى على هذا النحو قصدًا؛ لأن الكاتب يرى أن قصته قد استوفت كل ما لها وما عليها فيتوقف عند هذا الحد، أو أنه قصير النفس فيكتفي بكتابة قصة طويلة، يمكن أن تكون مرحلة لديه بين القصة والرواية، أو أن يكون ماكرًا فيكبح جماح السرد، منحازًا إلى التكثيف، غير مستسلم لهذا التصور الذي يتردد طيلة الوقت على أن الرواية هي فن التفاصيل، أو أنه يسعى إلى تقديم رؤية مغايرة في فن السرد، على مستوى الشكل.
إن فن القصة القصيرة الذي يتطور على الدوام رادمًا الهوة بين شذرات وومضات سردية تتهادى أحيانا، وبين تصورات فن الرواية الذي يحتفي بالتفاصيل والتعدد والتبيئة الواضحة، حيث حضور المكان والزمان بصورة أكثر جلاء، لهو فن قادر على أن يمنحنا بتجاوره وتضافره وتتابعه وقلقه أشكالا سردية أوسع.
ولعل العمل الذي كتبه روبير الفارس بعنوان "الرعاع" وصنفه صاحبه بأنه "نوفيلا" يمنحنا لمحة عن توظيف القص في صياغة سرد مغاير، أكثر اتساعًا من قصة، وأقل ضيقًا من رواية، لا سيما أن الكاتب عمد هنا إلى جمع قصص متتالية متشابهة في عوالمها، أو متقاربة في مضمونها؛ لتصنع في مجموعها شكلًا سرديًا ينطوي على قدر من التماسك، ولهذا أسماه صاحبه رواية قصيرة، ربما لأنه لم ير فيه بعد كتابته ما يجعله مطمئنًا إلى أن يطلق عليه مجموعة قصصية أو متتالية، وليس بوسعه أن يسميه نصًا فقط، ويترك التصنيف للقارئ، أو حتى حكايات فيها من التجمع والتفرق، فأزاحه طواعية أو قسرًا إلى التصنيف الذي انتهى إليه، وهو أمر قد يختلف فيه البعض معه، لكنه على أي حال مقبول، قياسًا إلى وحدة العالم الذي يدور فيه النص، أو إلى ما رآه صاحبه، الذي سبق له كتابة الرواية والقصة غير مرة ويعرف الفروق الجوهرين بين النوعين.
وليس ما جرى في هذا السرد بالأمر السيئ على الإطلاق، إذ إن "الرعاع" نص يمنحنا شكلًا مغايرًا في الكتابة السردية، لا سيما أن الكاتب عمد فيه، على ما يبدو، إلى استعمال طريقتين في الكتابة، اختلفت في نصفه الأول عن الثاني، بل إنه بدا واعيًا لهذا. وقد يقال إن مرد ذلك أن النص كتب على مرحلتين زمنيتين متباعدتين نسبيًا، وقد لا يكون هذا، إنما أراد الكاتب أن يجرب أكثر من طريقة في السرد، ولا ضير في الحالتين، فالإبداع فيه من اللا وعي بقدر ما فيه من الوعي، وهذه مسألة متفق عليه في علم نفس الإبداع.
فبينما جاء النصف الأول غارقًا في بلاغة، لم تخل من تكلف أحيانا، وإن بدت شاهدة عن امتلاك الكاتب لحصيلة لغوية جيدة، فإن النصف الثاني انطلق فيه السرد متخففًا من هذا القيد، فكان بسيطًا متدفقًا، يسيرًا على قارئ يميل إلى الخفة، أو يؤمن بسحر البساطة المعبرة، وينفر من اللغة التي تلفت الانتباه لذاتها وتؤخر ميلاد المعنى، وتثقل الصورة بما لا تحتمل.
ففي الأولى يقول مثلا: "لمسة شهية يتدلى لها البرد من عظامه، سحب تمطر لسعات حب تسقط فوق شعرها الهيش، ترتدي أنفاسها عري يغري ملائكة الجن باللذة المحرمة عليهم، فيحترقون. شياطين تدلف إلى دمائه مزيدًا من الشهوات النقية، المغرورة بأصلها السماوي".
أما في الثانية فنقرأ عن مفارقة ساخرة تقول: "عندما أجد نفسي أمام ضابط شرطة، بدون أي تردد أخطف يده، وأنحني، وأقبلها، وأنا في غاية النشوة. هذه اليد تعني لي أول حق من حقوق الإنسان وهو الأمان، ولا حياة بلا أمان ولا أمن".
ثم يعمد في هذا الجزء أن يذكر غير مرة في بعض القصص، عبارة، ثم يكررها مستهلا هذا بالفعل: "وأكرر" بل بعبارة "نعم أكرر وأقصد المعنى الذي وصلك يا قارئي العزيز"، مراوحًا بين توكدين لفظي ومعنوي، يعطيان النص نكهة شفاهية، وجودها ضروري في أي عمل أدبي، لما فيها من قرب من عقل المتلقي ونفسه.
كما أن النص مقسم إلى ثلاثة أجزاء قصيرة، الأول أخذ عنوان "النهاية" وفيه سبع دفقات سردية متصلة ومنفصلة في آن، وتكرر الأمر نفسه مع الجزء الثالث الذي أخذ عنوان "الرعاع"، وفيه أربع دفقات سردية على الشاكلة نفسها.
في المنتصف جاء جزء سمي بـ"الافتتاحيات" بدا كأنه قصص منفصلة، لكن اتصالها كان في اسم بطلها، أو من جعله المؤلف كاتبًا لها؛ لأنه يعمل صحفيًا، ومن ثم كتب تحت كل واحدة منها عبارة "بقلم: خالد أبووردة". وقد أعطى كلًا منها عنوانًا فجاءت على النحو التالي: "الجريمة التي هزت الأهرام بالعقل"، و"تمثال فورًا للضابط العظيم بالعقل"، و"صانع الفتنة بالعقل"، و"الجن يعظ بالعقل"، ثم "الحلاق والأميرة"، و"الملحدة والمؤمن".
وربما أطلق الكاتب على نصه اسم "الرعاع" اتكاءً أو انطلاقًا من قيمة أخلاقية، ترى أن السمة المشتركة في الأنماط البشرية التي توزعت على القصص المتتابعة هي التردي والتدني، بما يزيحهم إلى خانة "الرعاع"، فهم جميعًا يميلون إلى الاستغلال والانتهازية، على اختلاف المهن التي يحترفونها، والأدوار الاجتماعية التي يؤدونها، سواء الضابط الذي يمارس التعذيب، أو زوجته المتحرقة إلى علاقة جنسية مختلفة، أو صاحب الفرن الذي يستغل موقعه في بطون الناس للتلصص والابتزاز، ويتواطأ معه الذين حوله، والحلاق المنفلت لسانه، والمستغل للدين، سواء كان مسيحيًا أو مسلمًا، والملحد المخلص لذاته، أو الصحفي المسكون بالشبق، والساعي إلى أن ينسج على منواله مغامراته الصغيرة العابرة.
إنها شخصيات تعاني من اضطرابات نفسية، تتباين من واحد إلى آخر، وهذا خيط يربط بين أشتات الرواية الموزعة على قصص، يتضافر مع خيطين آخرين، حدة الأسلوب الذي يعبر عن سماتها وحالاتها، وقسوة الوصف، الذي يجنح أحيانًا إلى رسم صور مفزعة ومقززة، تضفي أجواء كابوسية على الأحداث، سواء في ركودها أو تدفقها. وربما تكون هناك نقطة مركزية تنجذب إليها أطراف هذا النص الموزع على غير اتجاه، وهي حالة العنف الرمزي واللفظي والمادي الكامنة في النفس البشرية، والتي يمكن أن تظل حبيسة إلى أن تأتي لها فرصة الانفلات، وهو ما يفعله الكاتب هنا، حين يخلق مجالًا لشخصياته كي تعبر عما تؤمن به وتريده دون قيود، حتى لو كان التعبير فجًا فظًا مخالفًا للأخلاق التي ارتضتها الجماعة البشرية في زمان ومكان محدد.
إن قارئ هذا العمل قد ينسى مضمونه بعد مدة من مطالعته، لا سيما إن كان ضعيف الذاكرة، وقد تتداخل في رأسه الأحداث وتضطرب الشخصيات التي تصنعها، لكن سيبقى في رأسه الشكل، الذي يحتاج إلى تمهل قبل الحكم عليه، وإيمان بحق أي كاتب في أن يلبس نصه أي شكل يريد، واحترام رغبته في المغامرة، ومسامحة معه تصل إلى حد أن يعتقد البعض أن كاتبًا يمكن أن يدفع نصوصًا متفرقة انتهى من كتابتها، ثم يطلق عليها ما شاء من وصف أو تصنيف.
وبالنسبة لي يبقى هذا النص شاهدًا على قدرة فن القصص القصيرة على أن يتسع إن اتكأ بعضه على بعضه وتساند وتضافر؛ ليصنع ما يمكن لكاتب أن يطلق عليه اسمًا لنوع أدبي آخر، سواء كان رواية قصيرة أو غيرها.