جدل الهوية في مصر

جدل الهوية في مصر

جدل الهوية في مصر

 صوت الإمارات -

جدل الهوية في مصر

عمار علي حسن
بقلم : عمار علي حسن

طالما انتاب بعض المصريين، في أيام الهزائم والانكسار التي ألمت بالعرب، قنوط شديد حيال هويتهم العربية، وانسحبوا داخل أنفسهم، وأحاطوها بسياج محكم من الانتماء القطري الضيق، الذي ينزع مصر من سياقها الأوسع، ويقطع صلتها بتاريخها ومصالحها في آن. ويستدعي الذهن هنا جدلاً قديماً، لم يصمد أمام دفع التيار الأكبر في الحياة الاجتماعية الثرية للمصريين، بمختلف شرائحهم الاجتماعية ومشاربهم الفكرية وتوجهاتهم السياسية، حول هوية مصر، التي أراد لها أحد حكامها، وهو الخديوي إسماعيل، يوماً أن تكون «قطعة من أوروبا»، وتمناها طه حسين «بحرمتوسطية» وأراد لها البعض أن تجلب «الفرعونية» فقط، إلى الحاضر المعيش ولا تتركها منسية في التاريخ البعيد. وسعى آخرون إلى لي عنق الشعار العظيم الذي رفعته النخبة السياسية والاجتماعية والفكرية، إبان أيام الاحتلال، وهو «مصر للمصريين»، ليستمر في الزمان والمكان، غريباً على مفهومه المحدد الذي قصده من تبنوه، ليس له أدنى علاقة بالهدف الذي رفع من أجله.
هذا الجدل، الذي يطفو ويغوص، يتأجج ويخبو، بين حدود النخبة المصرية، يصادر على الميول النفسية والتصورات الذهنية والأبعاد الاجتماعية بحمولاتها الدينية والعقدية، لشعب برمته، لم يشك يوماً في هويته العربية، ولم يجد أي داعٍ لطرح تساؤل حول هذا الأمر، بل يعلو على جدل المثقفين، ليراكم مما تنتجه قريحته، ما يؤكد توجهه الفطري نحو العروبة، متحرراً من عقد النخبة المصرية وظنونها، مع أنها لم تبرح، على مدار أكثر من قرن ونصف من الزمن، المكان نفسه، الذي مكث فيه الرعيل الأول من المفكرين المستنيرين، والساسة الأحرار.
القريحة الشعبية المصرية تسطر توجهاتها بعفوية، لا تعرف تخطيط المثقفين ومآربهم الموزعة على مصالح ضيقة أحياناً، وتتلمس خطاها بشفافية لا تتوقف أبداً أمام نصوصهم التي يلفها الغموض وتصيبها المواربة. وهذه التوجهات تقطع أي شك حول عروبة مصر. فالأبطال الأسطوريون الذين تحفل بهم السير الشعبية المصرية هم عرب، مثل «أبو زيد الهلالي»، و«سيف بن زي يزن»، و«حمزة البهلوان»، و«الزير سالم»، و«ذات الهمة». والأشخاص الذين يتخذهم أغلب المصريين قدوة ومثالاً هم من عرب الجزيرة، مثل الرسول صلى الله عليه وسلم في الأخلاق والورع، وعمر بن الخطاب في العدل، وخالد بن الوليد في الشجاعة، وعمرو بن العاص في الدهاء. والممقوتون هم عرب أيضاً، يتقدمهم الحجاج بن يوسف في التجبر، وأبو لهب في الكفر، وعبد الله بن سلول في النفاق.
نعم.. لم تغفل القريحة المصرية السيرة الفرعونية، في «إيزيس وأزوريس» و«كليوباترا وأنطونيو» و«عايدة»، ولم تنس حكمة «الفلاح الفصيح» أو ورع «إخناتون» المنادي بالتوحيد، لكن كل هذه الحكايات ظلت ذات طابع نخبوي، بينما غلب الطابع العربي الإسلامي على القريحة الشعبية، وبدت الفرعونية تحمل معنى سلبياً في الخطاب السياسي والديني للمسلمين المصريين وبعض الأقباط، فـ«الفرعونية السياسية» تعني الاستبداد، والفرعون بالمفهوم الديني يعني «المروق والتكبر» لكنها احتفظت بجلالها في الخطاب الثقافي، لترتبط بأول حضارة إنسانية لا تزال آثارها تشهد على عظمتها. كما مزجت مصر تاريخها، وصهرت كل ثقافات الغزاة الذين مروا بها على مدار التاريخ، لتصبح وثيقة من جلد رقيق، يظهر فيها القرآن فوق الإنجيل ويعتلى الاثنان هيرودوت، وتحت الجميع لا تزال الكتابة القديمة تقرأ بوضوح وجلاء.
من هنا لم يكن الجدل حول الهوية، ورغبة البعض في الانكفاء على الذات، يؤرق المصريين سوى في أيام المحن التي تلم بالعرب، ربما ليأس جارف من إصلاح الحال، أو شوفينية مريضة زائفة للنجاة بالنفس، أو شعور بعدم جدوى الرهان على العروبة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جدل الهوية في مصر جدل الهوية في مصر



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات
 صوت الإمارات - بلينكن يطلب من إسرائيل السماح باستئناف التلقيح لأطفال غزة

GMT 20:59 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

تطوير مادة موجودة في لعاب السحالي للكشف عن أورام البنكرياس

GMT 20:58 2018 الإثنين ,03 كانون الأول / ديسمبر

شرطة نيويورك تبحث عن رجل أضاع خاتم الخطوبة

GMT 09:44 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد بن سعيد يدشن " فندق ألوفت دبي ساوث " فى الامارات

GMT 23:20 2017 الجمعة ,22 كانون الأول / ديسمبر

محمد الشامسي جاهز للمشاركة مع الإمارات أمام عمان

GMT 01:40 2016 الجمعة ,14 تشرين الأول / أكتوبر

حمود سلطان يطالب برحيل المدرب الاماراتي مهدي علي

GMT 10:48 2021 الإثنين ,06 أيلول / سبتمبر

الطاولات الجانبية في الديكور لتزيين غرفة الجلوس

GMT 19:49 2019 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

سيفاس سبور يكتسح قيصري سبور برباعية في الدوري التركي

GMT 00:03 2019 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

يتحالف معظم الكواكب لدعمك ومساعدتك في هذا الشهر

GMT 08:50 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

شباب الأهلي يقهر عجمان بثلاثية في الدوري الإماراتي

GMT 00:38 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

شباب الأهلي يرغب في التعاقد مع الإكوادوري كازاريس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates